ذكر ما كان عليه موضع القاهرة قبل وضعها
إعلم أن مدينة الإقليم منذ كان فتح مصر على يد عمرو بن العاص رضياللهعنه كانت مدينة الفسطاط المعروفة في زماننا بمدينة : مصر قبليّ القاهرة ، وبها كان محل الأمراء ، ومنزل ملكهم ، وعاليها تجبى ثمرات الأقاليم ، وتأوي الكافة ، وكانت قد بلغت من وفور العمارة ، وكثرة الناس وسعة الأرزاق والتفنن في أنواع الحضارة ، والتأنق في النعيم ما أربت به على كل مدينة في المعمور حاشا بغداد ، فإنها كانت سوق العالم ، وقد زاحمتها مصر ، وكادت أن تساميها إلّا قليلا ، ثم لما انقضت الدولة الإخشيدية من مصر ، واختلّ حال الإقليم بتوالي الغلوات ، وتواتر الأوباء ، والفنوات حدثت مدينة القاهرة عند قدوم جيوش المعز لدين الله أبي تميم معدّ أمير المؤمنين على يد عبده ، وكاتبه القائد جوهر ، فنزل حيث القاهرة الآن ، وأناخ هناك ، وكانت حينئذ رملة ، فيما بين مصر وعين شمس يمرّ بها الناس عند مسيرهم من الفسطاط إلى عين شمس ، وكانت فيما بين الخليج المعروف في أوّل الإسلام بخليج أمير المؤمنين ، ثم قيل له خليج القاهرة ، ثم هو الآن يعرف بالخليج الكبير ، وبالخليج الحاكميّ ، وبين الخليج المعروف باليحاميم ، وهو الجبل الأحمر ، وكان الخليج المذكور فاصلا بين الرملة المذكورة ، وبين القرية التي يقال لها : أم دنين ، ثم عرفت الآن بالمقس ، وكان من يسافر من الفسطاط إلى بلاد الشام ينزل بطرف هذه الرملة في الموضع الذي كان يعرف بمنية الأصبغ ، ثم عرف إلى يومنا بالخندق ، وتمرّ العساكر والتجار ، وغيرهم من منية الأصبغ إلى بني جعفر على غيفة وسلمنت إلى بلبيس ، وبينها وبين مدينة الفسطاط أربعة وعشرون ميلا ، ومن بلبيس إلى العلاقمة إلى الفرما ، ولم يكن الدرب الذي يسلك في وقتنا من القاهرة إلى العريش في الرمل يعرف في القديم ، وإنما عرف بعد خراب تنيس والفرما ، وإزاحة الفرنج عن بلاد الساحل بعد تملكهم له مدّة من السنين ، وكان من يسافر في البرّ من الفسطاط إلى الحجاز ينزل بجب عميرة المعروف اليوم ببركة الجب ، وببركة الحاج ، ولم يكن عند نزول جوهر بهذه الرملة فيها بنيان سوى أماكن هي بستان الإخشيد محمد بن ظفج المعروف اليوم بالكافوريّ من القاهرة ، ودير للنصارى يعرف بدير : العظام ، تزعم النصارى أنّ فيه بعض من أدرك المسيح عليهالسلام ، وبقي الآن بئر هذا الدير ، وتعرف ببئر العظام والعامة تقول بئر العظمة ، وهي بجوار الجامع الأقمر من القاهرة ، ومنها ينقل الماء إليه ، وكان بهذه الرملة أيضا مكان ثالث يعرف بقصيّر الشوك بصيغة التصغير تنزله بنو عذرة في الجاهلية ، وصار موضعه عند بناء القاهرة يعرف بقصر الشوك من جملة القصور الزاهرة ، هذا الذي اطلعت عليه أنه كان في موضع القاهرة قبل بنائها بعد الفحص والتفتيش ، وكان النيل حينئذ بشاطئ المقس يمرّ من موضع الساحل القديم بمصر الذي هو الآن سوق المعاريج ، وحمام طن والمراغة ، وبستان الجرف ، وموردة الحلفاء ، ومنشأة