قال المسبحيّ : وكان الداعي يواصل الجلوس بالقصر لقراءة ما يقرأ على الأولياء ، والدعاوي المتصلة ، فكان يفرد للأولياء مجلسا ، وللخاصة وشيوخ الدولة ، ومن يختص بالقصور من الخدم وغيرهم مجلسا ، ولعوام الناس ، وللطارئين على البلد مجلسا ، وللنساء في جامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر مجلسا ، وللحرم وخواص نساء القصر مجلسا ، وكان يعمل المجالس في داره ، ثم ينفذها إلى من يختص بخدمة الدولة ، ويتخذ لهذه المجالس كتبا يبيضونها بعد عرضها على الخليفة ، وكان يقبض في كل مجلس من هذه المجالس ما يتحصل من النجوى من كل من يدفع شيئا من ذلك عينا وورقا من الرجال والنساء ، ويكتب أسماء من يدفع شيئا على ما يدفعه ، وكذلك في عيد الفطر يكتب ما يدفع عن الفطرة ، ويحصل من ذلك مال جليل ، يدفع إلى بيت المال شيئا بعد شيء ، وكانت تسمى مجالس الدعوة : مجالس الحكمة ، وفي سنة أربعمائة كتب سجل عن الحاكم بأمر الله فيه رفع الخمس والزكاة والفطرة والنجوى التي كانت تحمل ، ويتقرّب بها ، وتجري على أيدي القضاة ، وكتب سجل آخر بقطع مجالس الحكمة التي تقرأ على الأولياء يوم الخميس والجمعة ، انتهى. ووظيفة داعي الدعاة كانت من مفردات الدولة الفاطمية ، وقد لخصت من أمر الدعوة طرفا أحببت إيراده هنا.
وصف الدعوة وترتيبها : وكانت الدعوة مرتبة على منازل : دعوة بعد دعوة.
الدعوة الأولى : سؤال الداعي لمن يدعوه إلى مذهبه عن المشكلات ، وتأويل الآيات ، ومعاني الأمور الشرعية ، وشيء من الطبيعيات ، ومن الأمور الغامضة ، فإن كان المدعوّ عارفا سلم له الداعي وإلّا تركه يعمل فكره فيما ألقاه عليه من الأسئلة ، وقال له : يا هذا ، إنّ الدين لمكتوم ، وإنّ الأكثر له منكرون ، وبه جاهلون ، ولو علمت هذه الأمّة ما خص الله به الأئمة من العلم ، لم تختلف؟ فيتشوق حينئذ المدعوّ إلى معرفة ما عند الداعي من العلم فإذا علم منه الإقبال أخذ في ذكر معاني القراءات وشرائع الدين ، وتقرير أنّ الآفة التي نزلت بالأمّة ، وشتت الكلمة ، وأورثت الأهواء المضلة ، ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم ، وأقيموا حافظين لشرائعهم يؤدونها على حقيقتها ، ويحفظون معانيها ، ويعرفون بواطنها غير أنّ الناس لما عدلوا عن الأئمة ، ونظروا في الأمور بعقولهم ، واتبعوا ما حسن في رأيهم ، وقلدوا أسفلتهم ، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم اتباعا للملوك ، وطلبا للدنيا التي هي أيدي متبعي لإثم وأجناد الظلمة ، وأعوان الفسقة الذين يحبون العاجلة ، ويجتهدون في طلب الرئاسة على الضعفاء ومكايدة رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أمّته وتغيير كتاب الله عزوجل ، وتبديل سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ومخالفة دعوته ، وإفساد شريعته ، وسلوك غير طريقته ، ومعاندة الخلفاء الأئمة من بعده بختر من قبل ذلك ، وصار الناس إلى أنواع الضلالات ، فإنّ دين محمد صلىاللهعليهوسلم ما جاء بالتحلي ، ولا بأمانيّ الرجال ، ولا شهوات الناس ، ولا بما خف على الألسنة ،