العامّة ، وغير ما يتبادر الذهن إليه ، وليس هو إلّا حدوث أدوار عند انقضاء أدوار من أدوار الكواكب ، وعوالم اجتماعاتها من كون ، وفساد جاء على ترتيب الطباع ، كما قد بسطه الفلاسفة في كتبهم ، فإذا استقرّ هذا العقد عند المدعوّ ، نقله الداعي إلى الدعوة التاسعة.
الدعوة التاسعة : هي النتيجة التي يحاول الداعي بتقرير جميع ما تقدّم رسوخها في نفس من يدعوه ، فإذا تيقن أنّ المدعوّ تأهل لكشف السرّ ، والإفصاح عن الرموز أحاله على ما تقرّر في كتب الفلاسفة من علم الطبيعيات ، وما بعد الطبيعة والعلم الإلهي ، وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية ، حتى إذا تمكن المدعوّ من معرفة ذلك ، كشف الداعي قناعه وقال اذكر من الحدوث ، والأصول رموز إلى معاني المبادىء ، وتقلب الجواهر ، وأنّ الوحي إنما هو صفاء النفس ، فيجد النبيّ في فهمه ما يلقي إليه ، ويتنزل عليه ، فيبرزه إلى الناس ، ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبيّ شريعته بحسب ما يراه من المصلحة في سياسة الكافة ، ولا يجب حينئذ العمل بها إلّا بحسب الحاجة من رعاية مصالح الدهماء ، بخلاف العارف ، فإنه لا يلزمه العمل بها ، ويكفيه معرفته ، فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه وما عدا المعرفة من سائر المشروعات ، فإنما هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة لمعرفة الأعراض والأسباب. ومن جملة المعرفة عندهم : أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع ، إنّما هم لسياسة العامّة ، وإنّ الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة ، وإنّ الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني ، إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه ، وظهوره الآن إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه ، ونحو ذلك مما هو مبسوط في كتبهم ، وهذا حاصل علم الداعي ، ولهم في ذلك مصنفات كثيرة ، منها اختصرت ما تقدّم ذكره.
ابتداء هذه الدعوة : إعلم أنّ هذه الدعوة منسوبة إلى شخص كان بالعراق يعرف : بميمون القدّاح ، وكان من غلاة الشيعة ، فولد ابنا عرف : بعبد الله بن ميمون ، اتسع علمه وكثرت معارفه ، وكاد أن يطلع على جميع مقالات الخليقة ، فرتب له مذهبا ، وجعله في تسع دعوات ، ودعا الناس إلى مذهبه ، فاستجاب له خلق ، وكان يدعو إلى الإمام محمد بن إسماعيل ، وظهر من الأهواز ، ونزل بعسكر مكرّم ، فصار له مال ، واشتهرت دعاته ، فأنكر الناس عليه ، وهموا به ففرّ إلى البصرة ، ومعه من أصحابه الحسين الأهوازيّ ، فلما انتشر ذكره بها طلب ، فصار إلى بلاد الشام ، وأقام بسلمية ، وبها ولد له ابنه أحمد ، فقام من بعد أبيه عبد الله بن ميمون فسير الحسين الأهوازيّ داعية له إلى العراق ، فلقي حمدان بن الأشعث المعروف : بقرمط بسواد الكوفة ، فدعاه واستجاب له ، وأنزله عنده ، وكان من أمره ما هو مذكور في أخبار القرامطة من كتابنا هذا ، عند ذكر المعز لدين الله معدّ ، ثم إنه ولد لأحمد بن عبد الله : ابنه الحسين ومحمد المعروف : بأبي الشلعلع ، فلما هلك أحمد خلفه ابنه الحسين ، ثم قام من بعده أخوه أبو الشلعلع ، وكان من أمرهم ما هو مذكور في موضعه ، فانتشرت الدعاة في أقطار الأرض ، وتفقهوا في الدعوة ، حتى وضعوا فيها الكتب الكثيرة،