قال ابن دحية : فخرج في ساعته بروايا الخمر تزجي بنغمات حداة الملاهي وتساق ، حتى أناخ بعين شمس في كبكبة من الفساق ، فأقام بها سوق الفسوق على ساق ، وفي ذلك العام أخذه الله تعالى ، وأهل مصر بالسنين ، حتى بيع في أيامه الرغيف : بالثمن الثمين ، وعاد ماء النيل بعد عذوبته كالفسلين ، ولم يبق بشاطئيه أحد بعد أن كانا محفوفين بحور عين.
وقال ابن ميسر : فلما كان في جمادى الآخرة من سنة : أربع وخمسين وأربعمائة ، خرج المستنصر على عادته إلى بركة الجب ، فاتفق أن بعض الأتراك جرّد سيفا في سكر منه على بعض عبيد الشراء ، فاجتمع عليه طائفة من العبيد وقتلوه ، فاجتمع الأتراك بالمستنصر ، وقالوا : إن كان هذا عن رضاك ، فالسمع والطاعة ، وإن كان عن غير رضاك ، فلا نرضى بذلك ، فأنكر المستنصر ما وقع ، وتبرّأ مما فعله العبيد ، فتجمع الأتراك لحرب العبيد ، وبرز بعضهم إلى بعض ، وكان بين الفريقين قتال شديد على كوم شريك ، انهزم فيه العبيد ، وقتل منهم عدد كثير ، وكانت أمّ المستنصر تعين العبيد ، وتمدّهم بالأموال والأسلحة ، فاتفق في بعض الأيام أن بعض الأتراك ظفر بشيء مما تبعث به أمّ المستنصر إلى العبيد ، فأعلم بذلك أصحابه ، وقد قويت شوكتهم بانهزام العبيد ، فاجتمعوا بأسرهم ، ودخلوا على المستنصر وخاطبوه في ذلك ، وأغلظوا في القول ، وجهروا بما لا ينبغي ، وصار السيف قائما ، والحروب متتابعة إلى أن كان من خراب مصر بالغلاء والفتن ، ما كان ، وكان من قبل المستنصر يتردّدون إلى بركة الجب.
قال المسبحيّ : ولاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة سنة أربع وثمانين وثلثمائة ، عرض العزيز بالله عساكره بظاهر القاهرة ، عند سطح الجب فنصب له مضرب ديباج روميّ ، فيه ألف ثوب بصفرية فضة ، ونصبت له فازة مثقل ، وقبة مثقل بالجوهر ، وضرب لابنه الأمير أبي عليّ منصور مضرب آخر ، وعرضت العساكر ، وكان عدّتها مائة عسكري ، وأقبلت أسارى الروم ، وعدّتهم مائتان وخمسون ، فطيف بهم ، وكان يوما عظيما حسنا لم تزل العساكر تسير بين يديه من ضحوة النهار إلى صلاة المغرب ، وما زالت بركة الجب منتزها للخلفاء والملوك من بني أيوب ، وكان السلطان صلاح الدين يبرز إليها للصيد ، ويقيم فيها الأيام ، وفعل ذلك الملوك من بعده ، واعتنى بها الملك الناصر محمد بن قلاون ، وبنى بها أحواشا وميدانا كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، وبركة الجب ، وما يليها في درك بني صبرة ، وهم ينسبون إلى صبرة ابن بطيح بن مغالة بن عجان بن عنب بن الكليب بن أبي عمرو بن دمية بن جدس بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم ، فهم أحد بطون لخم ، وفيهم بنو جذام بن صبرة بن بصرة بن غنم بن غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام أخي لخم.
المشتهى : وكان من مواضعهم التي أعدّت للنزهة المشتهى.