الفصل التاسع والخمسون
ذكر اعتدال جو مصر وبدع ومحاسن شعبها قدر المستطاع
إن ماء أم الدنيا مصر وهى شوق الملوك من ماء النيل ، وليس بها نهر آخر ، وقد أسهبنا فى وصفه وإحصاء محامده فيما سبق. وجوها معتدل لطيف إلى حد جدّ بعيد ، فلا يصاب أهل مصر بالحمى. سيما وقد ذكرنا آنفا أن جو القلعة الداخلية يشرح الصدور ، وتنتشر بها الحدائق والرياض والأحواض والشادروانات ، ويتردد فيها تغريد البلابل مما يبهج النفوس وهذا ما لا وجود له فى القلعة العليا. إلا أن جوها طيب فإذا ما مرض جنوب المدينة صعدوا به إلى القلعة العليا (أو إلى أعلى القلعة).
والقلعة العليا مصحة للمدينة ، والأبنية فى الجهة القبلية للمدينة متلاصقة ، لذا فطرقها ضيقة مظلمة ولذلك فعلى سطح كل بيت «عبّار هوائى» لإنفاذ الهواء إلى داخل البيت ومنافذ الهواء هذه من اختراع ابن سينا على ما يقال. وقد صنع ابن سينا هذه المنافذ بعلم السميا وكان يبيع كلا منهما بدينار من ذهب على قدر استطاعة كل أحد ، وكان كل منهم يضع هذا العبار فوق سطح بيته ليدخل منه الهواء فيتنسمه أهالى القاهرة.
ولهذا السبب فإن جو الجهة القبلية للمدينة غير متقلب فى اليوم الواحد تهب عشر رياح.
ـ ريح (تياب):
ولكن ريح (تياب) تهب من جهة ( ) (١) وتسمى ( ) (٢) فى بلاد الترك.
إنها فى مصر راحة للأرواح ، وهذه الرياح لا تبرد جرار وقلل الماء فى مصر.
ـ ريح المليس :
وتسمى فى بلاد الترك «لودس» وهى وإن كانت حارة التأثير إلا أنها تجعل الماء كأنه قطعة من ثلج.
ـ ريح «مزكب» :
وهى رياح مثيرة للرمال والأتربة ، تملأ القاهرة غبارا وترفع ثياب جميع الناس ، ومن شدتها تأتى بجميع سفن الحجاج من جدة إلى مصر مما يعود بالخير على البلاد.
__________________
(١ ، ٢) بياض فى الأصل.