النصر ، فلم يتأخر أحد من الأمراء والأعيان عن جنازته ، وكان حسن السياسة ، رضيّ الخلق ، عاقلا ، كثير السكون ، جيد السيرة ، جميل الصورة ، حسن الهيئة ، عارفا بأمر دنياه ، محبا للمداراة ، صاحب باطن ، قليل العلم رحمهالله.
ربع الزيتي : هذا الربع كان بجوار قنطرة الحاجب التي على الخليج الناصري ، وكان يشتمل على عدّة مساكن ينزلها أهل الخلاعة للقصف ، فإنه كان يشرف من جهاته الأربع على رياض وبساتين ففي شرقية غيط الزيتي ، وقد خرب ، وموضعه اليوم بركة ماء ، وفي غريبه غيط الحاجب بيبرس ، وأدركته عامرا وهو اليوم مزارع بعد ما كان له باب كبير بجانبه حوض ماء للسبيل ، وعليه سياج من طين دائر به ، ومن قبلي ، هذا الربع الخليج وقنطرة الحاجب والجنينة التي بأرض الطبالة ، ومن بحر به بساتين تتصل بالبعل وكوم الريش ، وما زال هذا الربع معمورا باللذات آهلا بكثرة المسرّات إلى أن كانت سنة الغرقة ، وهي سنة خمس وخمسين وسبعمائة ، فخربت دور كوم الريش وغيرها ، ووصل ماء النيل إلى قنطرة الحاجب ، فخرب ربع الزيتي وأهمل أمره حتى صار كوما عظيما تجاه قنطرة الحاجب ، وغيط الحاجب ، وسمعت من أدركته يخبر عن هذا الربع بعجائب من الملاذ التي كانت فيه ، وكانت العامة تقول في هزلها : ستي أين كنتي وأين رحتي وأين جيتي قالت مع ربع الزيتي :
ثمّ انقضت تلك السنون وأهلها |
|
فكأنها وكأنّهم أحلام |
الدار التي في أوّل البرقية من القاهرة التي حيطانها حجارة بيض منحوتة : هذه الدار بقي منها جدار على يمين من سلك من المشهد الحسينيّ يريد باب البرقية ، وبقي منها أيضا جدار على يمين من سلك من رحبة الأيدي مريّ إلى باب البرقية ، وهي دار الأمير صبيح بن شاهنشاه أحد أمراء الدولة الفاطمية في أيام الصالح طلائع بن رزيك ، وكانت في غاية الكبر والتحسين. قال بعض أصحاب الصالح : يا مولانا أبقاك الله حتى تتم دار ابن شاهنشاه ، وكان الضرغام قبل أن يلي وزارة مصر قد فرّس العادل أبا شجاع رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك ، فظهر منه فارسا في غاية الفروسية ، بحيث أنه قد حضر في يوم عيد الحلقة وأخذ رمحا وحربة وقوسا وسهما ، فأخذ الحلقة بالرمح ، ورمى بالسهم فأصاب الغرض ، وحذف بالحربة فأثبتها في المرمى ، ولعب بالرمح في غاية الحسن.
ثم دخل صبيح ابن شاهنشاه فعمل مثل ذلك ، فتحرّك الضرغام وكان يلبس عمامة بعذبة وإكمال واسعة على زيّ المصرييين يومئذ ، فتلثم بعذبته ولف أكمامه وأخذ رمحه ولعب به في غاية الحسن ، وطرد كذلك ودخل في الحلقة وأخذها ، فعجب منه كل من في العسكر ، فأخذ عند ذلك الأمير صبيح ابن شاهنشاه المبخرة وأتى إليه وقال : يا مولاي كفاك الله أمر العين ، فإن هذا شيء ما يقدر عليه أحد ، وجعل يدور حول فرسه ويبخره والضرغام