الطبالة خربت في سنة ست وتسعين وستمائة عند حدوث الغلاء والوباء في سلطنة الملك العادل كتبغا ، حتى لم يبق فيها إنسان يلوح ، وبقيت خرابا إلى ما بعد سنة إحدى عشرة وسبعمائة ، فشرع الناس في سكناها قليلا قليلا ، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ في سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، كانت هذه الأرض بيد الأمير بكتمر الحاجب ، فما زال بالمهندسين حتى مرّوا بالخليج من عند الجرف على بركة الطوّابين التي تعرف اليوم ببركة الحاجب ، وببركة الرطليّ ، فمرّوا به من هناك حتى صبّ في الخليج الكبير من آخر أرض الطبالة ، فعمر الأمير بكتمر المذكور هناك القنطرة التي تعرف بقنطرة الحاجب على الخليج الناصريّ ، وأقام جسرا من القنطرة المذكورة إلى قريب من الجرف ، فصار هذا الجسر فاصلا بين بركة الحاجب والخليج الناصريّ ، وأذن للناس في تحكيره فبنوا عليه وعلى البركة الدور ، وعمرت بسبب ذلك أرض الطبالة ، وصار بها عدّة حارات منها : حارة العرب ، وحارة الأكراد ، وحارة البزازرة ، وحارة العياطين ، وغير ذلك. وبقي فيها عدّة أسواق وحمّام وجوامع تقام بها الجمعة ، وأقبل الناس على التنزه بها أيام النيل والربيع ، وكثرت الرغبات فيها لقربها من القاهرة ، وما برحت على غاية من العمارة إلى أن حدث الغلاء في سنة سبع وسبعين وسبعمائة أيام الأشرف شعبان بن حسين ، فخرب كثير من حارات أرض الطبالة ، وبقيت منها بقية إلى أن دثرت منذ سنة ست وثمانمائة ، وصارت كيمانا ، وبقي فيها من العامر الآن الاملاك المطلة على البركة التي ذكرت عند ذكر البرك من هذا الكاتب ، وفيها بقعة تعرف بالجنينة تصغير جنة من أخبث بقاع الأرض ، يعمل فيها بمعاصي الله عزوجل ، وتعرف ببيع الحشيشة التي يبتلعها اراذل الناس ، وقد فشت هذه الشجرة الخبيثة في وقتنا هذا فشوّا زائدا ، وولع بها أهل الخلاعة والسخف ولوعا كثيرا ، وتظاهروا بها من غير احتشام بعدما أدركناها تعدّ من أرذل الخبائث وأقبح القاذورات ، وما شيء في الحقيقة أفسد لطباع البشر منها ، ولاشتهارها في وقتنا هذا ، عند الخاص والعام بمصر والشام والعراق والروم ، تعين ذكرها ، والله تعالى أعلم.
ذكر حشيشة الفقراء
قال الحسن بن محمد في كتاب السوانح الأدبية في مدائح القنبية : سألت الشيخ جعفر بن محمد الشيرازيّ الحيدريّ ببلدة تستر في سنة ثمان وخمسين وستمائة ، عن السبب في الوقوف على هذا العقار ووصوله إلى الفقراء خاصة ، وتعدّيه إلى العوام عامّة ، فذكر لي أن شيخه شيخ الشيوخ حيدرا رحمهالله ، كان كثير الرياضة والمجاهدة ، قليل الاستعمال للغذاء ، قد فاق في الزهادة وبرز في العبادة ، وكان مولده بنشاور من بلاد خراسان ، ومقامه بجبل بين نشاور ومارماه وكان قد اتخذ بهذا الجبل زاوية وفي صحبته جماعة من الفقراء ، وانقطع في موضع منها ومكث بها أكثر من عشر سنين لا يخرج منها ، ولا يدخل عليه أحد غيري للقيام بخدمته. قال : ثم أن الشيخ طلع ذات يوم وقد اشتدّ الحرّ وقت القائلة منفردا