المآكل ، وأدركت بها حمّاما وجامعين تقام بهما الجمعة ، وموقف مكارية ، ومنارة لا يقدر الواصف أن يعبر عن حسنها لما اشتملت عليه من كل معنى رائق بهج ، وما برحت على ذلك إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة ، فطرقها أنواع الرزايا حتى صارت بلاقع (١) ، وجهلت طرقها وتغيرت معاهدها ونزل بها من الوحشة ما أبكاني ، وأنشدت في رؤيتها عندما شاهدتها خرابا :
قفرا كأنك لم تكن تلهو بها |
|
في نعمة وأوانس أتراب |
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، إنّ أخذه أليم شديد.
ذكر بولاق
قد تقدّم في غير موضع من هذا الكتاب أن ساحل النيل كان بالمقس ، وأن الماء انحسر بعد سنة سبعين وخمسمائة عن جزيرة عرفت بجزيرة الفيل ، وتقلص ماء النيل عن سور القاهرة الذي ينتهي إلى المقس ، وصارت هناك رمال وجزائر ، ما من سنة إلّا وهي تكثر ، حتى بقي ماء النيل لا يمرّ بها إلا أيام الزيادة فقط. وفي طول السنة ينبت هناك البوص والحلفاء ، وتنزل المماليك السلطانية لرمي النشاب في تلك التلال الرمل. فلما كان سنة ثلاث عشرة وسبعمائة رغب الناس في العمارة بديار مصر ، لشغف السلطان الملك الناصر بها ومواظبته عليها ، فكأنما نودي في القاهرة ومصر أن لا يتأخر أحد من الناس عن إنشاء عمارة ، وجدّ الأمراء والجند والكتّاب والتجّار والعامّة في البناء ، وصارت بولاق حينئذ تجاه بولاق التكرور ، يزرع فيها القصب والقلقاس على ساقية تنقل الماء من النيل ، حيث جامع الخطيري الآن ، فعمّر هناك رجل من التجار منظرة ، وأحاط جدارا على قطعة أرض غرس فيها عدّة أشجار وتردّد إليها للنزهة.
فلما مات انتقلت إلى ناصر الدين محمد بن الجوكندار ، فعمر الناس بجانبها دورا على النيل وسكنوا ورغبوا في السكنى هناك ، فامتدّت المناظر على النيل من الدار المذكورة إلى جزيرة الفيل ، وتفاخروا في إنشاء القصور العظيمة هناك ، وغرسوا من ورائها البساتين العظيمة ، وأنشأ القاضي ابن المغربيّ رئيس الأطباء بستانا ، اشتراه منه القاضي كريم الدين ناظر الخاص للأمير سيف الدين طشتمر الساقي ، بنحو مائة ألف درهم فضة. وكثر التنافس بين الناس في هذه الناحية ، وعمروها حتى انتظمت العمارة في الطول على حافة النيل ، من منية الشيرج إلى موردة الحلفاء ، بجوار الجامع الجديد خارج مصر ، وعمر في العرض على حافة النيل الغربية ، من تجاه الخندق بحريّ القاهرة ، إلى منشأة المهرانيّ. وبقيت هذه المسافة العظيمة كلها بساتين وأحكارا عامرة بالدور والأسواق والحمّامات والمساجد
__________________
(١) البلقع : الأرض القفر التي لا شيء بها. مختار الصحاح.