فلما دخلت سنة أربع وثمانين وسبعمائة ، قصد الأمير جهاركس الخليليّ عمل جسر ليعود الماء إلى برّ القاهرة ويصير في طول السنة هناك ، ويكثر النفع به فيرخص الماء المحمول في الروايا ويقرب مرسى المراكب من البلد وغير ذلك من وجوه النفع ، فشرع في العمل أوّل شهر ربيع الأوّل ، وأقام الخوازيق من خشب السنط ، طول كلّ خازوق منها ثمانية أذرع ، وجعلها صفين في طول ثلاثمائة قصبة وعرض عشر قصبات ، وسمر فيها أفلاق النخل الممتدّة ، وألقى بين الخوازيق ترابا كثيرا ، وانتصب هناك بنفسه ومماليكه ، ولم يجب من أحد مالا البتة ، فانتهى عمله في أخريات شهر ربيع الآخر ، وحفر في وسط البحر خليجا من الجسر إلى زريبة قوصون ، وقال شعراء العصر في ذلك شعرا كثيرا ، منهم عيسى بن حجاج :
جسر الخليليّ المقرّ لقد رسا |
|
كالطود وسط النيل كيف يريد |
فإذا سألتم عنهما قلنا لكم |
|
ذا ثابت دهرا وذاك يزيد |
وقال الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار :
شكت النيل أرضه |
|
للخليلي فأحصره |
ورأى الماء خائفا |
|
أن يطاها فجسره |
وقال :
رأى الخليليّ قلب الماء حين طغى |
|
بنى على قلبه جسرا وحيّره |
رأى ترمّل أرضيه ووحدتها |
|
والنيل قد خاف يغشاها فجسّره |
ومع ذلك ما ازداد الماء إلّا انطرادا عن برّ القاهرة ومصر ، حتى لقد انكشف بعد عمل هذا الجسر شيء كثير من الأراضي التي كانت عامرة بماء النيل ، وبعد النيل عن القاهرة بعدا لم يعهد في الإسلام مثله قط.
جسر شيبين : أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ، بسبب أنّ أقليم الشرقية كانت له سدود كلها موقوفة على فتح بحر أبي المنجا ، وفي بعض السنين تشرّق ناحية شيبين وناحية مرصفا وغير ذلك من النواحي التي أراضيها عالية ، فشكا الأمير بشتاك من تشريق بعض بلاده التي في تلك النواحي ، فركب السلطان من قلعة الجبل ومعه المهندسون وخولة البلاد ، وكانت له معرفة بأمور العمائر ، وحدس جيد ، ونظر سعيد ورأي مصيب ، فسار لكشف تلك النواحي حتى اتفق الرأي على عمل الجسر من عند شيبين القصر إلى بنها العسل ، فوقع الشروع في عمله وجمع له من رجال البلاد اثني عشر ألف رجل ، ومائتي قطعة جرّافة ، وأقام فيه القناطر فصار محبسا لتلك البلاد ، وإذا فتح بحر أبي المنجا امتلأت الاملاق بالماء ، وأسند على هذا الجسر ، وفي أوّل سنة عمل هذا الجسر أبطل فتح بحر أبي المنجا تلك السنة ، فتح من جسر شيبين هذا ، وحصل هذا الجسر نفع كبير