لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها ، وبحر النيل حائز لها ودائر عليها ، وكانت حصينة ، وفيها من البساتير والعمائر والثمار ما لم يكن في غيرها ، ولما فتح عمرو بن العاص مصر تحصن الروم بها مدّة ، فلما طال حصارها وهرب الروم منها خرّب عمرو بن العاص بعض أبراجها وأسوارها ، وكانت مستديرة عليها ، واستمرّت إلى أن عمر حصنها أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين ، ولم يزل هذا الحصن حتى خرّبه النيل ، ثم اشتراها الملك المظفر تقيّ الدين عمر المذكور وبقيت على ملكه إلى أن سيّر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر ومعه عمه الملك العادل ، وكتب إلى الملك المظفر بأن يسلم لهما البلاد ويقدم عليه إلى الشأم ، فلما ورد عليه الكتاب ووصل ابن عمه الملك العزيز وعمه الملك العادل شق عليه خروجه من الديار المصرية ، وتحقق أنه لا عود له إليها أبدا ، فوقف هذه المدرسة التي تعرف اليوم في مصر بالمدرسة التقوية ، التي كانت تعرف بمنازل العزو ، وقف عليها الجزيرة بكمالها ، وسافر إلى عمه فملكه حماه ، ولم يزل الحال كذلك إلى أن ولى الملك الصالح نجم الدين أيوب ، فاستأجر الجزيرة من القاضي فخر الدين أبي محمد ، عبد العزيز بن قاضي القضاة عماد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد العليّ بن عبد القادر السكريّ مدرّس المدرسة المذكورة لمدّة ستين سنة في دفعتين ، كل دفعة قطعة ، فالقطعة الأولى من جامع غين إلى المناظر طولا وعرضا ، من البحر إلى البحر واستأجر القطعة الثانية وهي باقي أرض الجزيرة بما فيها من النخل والجميز والغروس ، فإنه لما عمر الملك الصالح مناظر قلعة الجزيرة قطعت النخيل ودخلت في العمائر ، وأمّا الجميز ، فإنه كان بشاطئ بحر النيل صف جميز يزيد على أربعين شجرة ، وكان أهل مصر فرجهم تحتها في زمن النيل والربيع ، قطعت جميعها في الدولة الظاهرية ، وعمر بها شواني عوض الشواني التي كان قد سيرها إلى جزيرة قبرس ، ثم سلم المدرّس التقوية القطعة المستأجرة من الجزيرة أوّلا في سنة ثمان وتسعين وستمائة ، وبقي بيد السلطان القطعة الثانية ، وقد خربت قلعة الروضة ولم يبق منها سوى أبراج قد بنى الناس عليها ، وبقي أيضا عقد باب من جهة الغرب يقال له باب الإصطبل ، وعادت الروضة بعد هدم القلعة منها منتزها يشتمل على دور كثيرة وبساتين عدّة وجوامع تقام بها الجماعات والأعياد ومساجد ، وقد خرب أكثر مساكن الروضة ، وبقي فيها إلى اليوم بقايا. وبطرف الروضة المقياس الذي يقاس فيه ماء النيل اليوم ، ويقال له المقياس الهاشميّ ، وهو آخر مقياس بني بديار مصر.
قال أبو عمر الكنديّ : وورد كتاب المتوكل على الله بابتناء المقياس الهاشميّ للنيل ، وبعزل النصارى عن قياسه ، فجعل يزيد بن عبد الله بن دينار أمير مصر ، أبا الردّاد المعلم ، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب الخراج في كل شهر سبعة دنانير ، وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين ، وعلامة وفاء النيل ستة عشر ذراعا ، أن يسبل أبو الردّاد قاضي البحر الستر الأسود الخليفيّ على شباك المقياس ، فإذا شاهد الناس هذا الستر قد أسبل تباشروا بالوفاء