متحفّظا لقوانين الدولة ، فلم يحدث شيئا ولا خرج عمّا يعيّنه الخليفة له إلا أنه بلغه عن أستاذ من خواصّ الخليفة شيء يكرهه فقبض عليه من القصر من غير مشاورة الخليفة ، وضرب عنقه بخزانة (١) البنود ، فاستوحش منه الخليفة وخشي من زيادة معناه. وكانت هذه الفعلة غلطة منه ، ثمّ إنه خاف من صبيان الخاصّ أن يفتكوا به كما فتكوا بكتيفات ، فتنكّر لهم ، وتخوّفوه أيضا ، فركب في خاصّته وأركب العسكر ، وركب صبيان الخاص ، فكانت بينهما وقعة قبالة باب التبّانين بين القصرين ، قوي فيها يأنس ، وقتل من صبيان الخاصّ ما يزيد على ثلثمائة رجل من أعيانهم ، فيهم قتلة أبي عليّ كتيفات ، وكانوا نحو الخمسمائة فارس ، فانكسرت شوكتهم وضعف جانبهم ، واشتدّ بأس يأنس وعظم شأنه ، فثقل على الخليفة. وتحيّل منه فأحسّ بذلك ، فأخذ كلّ منهما في التدبير على الآخر ، فأعجل يأنس وقبض على حاشية الخليفة ، ومنهم قاضي القضاة وداعي الدعاة أبو الفخر وأبو الفتح بن قادوس وقتلهما ، فاشتدّ ذلك على الحافظ ، ودعا طبيبه وقال : اكفني أمر يأنس! فيقال أنّه سمّه في ماء المستراح فانفتح دبره واتّسع حتّى ما بقي يقدر على الجلوس ، فقال الطبيب : يا أمير المؤمنين قد أمكنتك الفرصة وبلغت مقصودك ، فلو أنّ مولانا عاده في هذه المرضة اكتسب حسن الأحدوثة ، فإنّ هذا المرض ليس له دواء إلا الدّعة والسكون ، ولا شيء عليه أضرّ من الحركة والانزعاج ، وهو إذا سمع بقصد مولانا له تحرّك واهتمّ للقاء وانزعج ، وفي ذلك تلاف نفسه. فنهض لعيادته ، وعند ما بلغ ذلك يأنس قام ليلقاه ونزل عن الفراش وجلس بين يدي الخليفة ، فأطال الخليفة جلوسه عنده وهو يحادثه ، فلم يقم حتّى سقطت أمعاء يأنس ، ومات من ليلته في سادس عشري ذي الحجة سنة ستّ وعشرين وخمسمائة ، وكانت وزارته تسعة أشهر وأياما ، وترك ولدين كفلهما الحافظ وأحسن إليهما. وكان يأنس هذا مولى أرمنيّا لباديس جدّ عبّاس الوزير ، فأهداه إلى الأفضل بن أمير الجيوش ، وترقّى في خدمته إلى أن تأمّر ، ثمّ ولي الباب وهي أعظم رتب الأمراء ، وكنّي بأبي الفتح ، ولقّب بالأمير السعيد ، ثم لمّا ولي الوزارة نعت بناصر الجيوش سيف الإسلام ، وكان عظيم الهمّة بعيد الغور كثير الشرّ شديد الهيبة (٢).
ذكر الأمير حسن بن الخليفة الحافظ
ولمّا مات الوزير يأنس تولّى الخليفة الحافظ الأمور بنفسه ، ولم يستوزر أحدا ، وأحسن السيرة. فلمّا كان في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة عهد إلى ولده سليمان ، وكان أسنّ أولاده وأحبّهم إليه ، وأقامه مقام الوزير ، فمات بعد شهرين من ولاية العهد ، فجعل مكانه أخاه حيدرة في ولاية العهد ، ونصّبه للنظر في المظالم ، فشق ذلك على أخيه الأمير
__________________
(١) خزانة البنود : كانت هذه الخزانة خزانة السلاح في الدولة الفاطمية. النجوم الزاهرة ٤ / ٥٠.
(٢) انظر الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥.