فلما مات الملك الناصر محمد بن قلاون ، حدث بين أجناد الحلقة نزول الواحد منهم عن إقطاعه لآخر بمال ، أو مقايضة الإقطاعات بغيرها فكثر الدخيل في الأجناد بذلك ، واشترت السوقة والأراذل الإقطاعات ، حتى صار في زمننا أجناد الحلقة أكثرهم أصحاب حرف وصناعات ، وخربت منهم أراضي إقطاعاتهم. وأوّل ما حدث ذلك أن السلطان الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاون ، لما تسلطن في شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة ، تمكن منه الأمير شجاع الدين أغرلوشادّ الدواوين ، واستجدّ أشياء منها المقايضة بالإقطاعات في الحلقة ، والنزول عنها. فكان من أراد مقايضة أحد بإقطاعه ، حمل كلّ منهما مالا لبيت المال يقرّر عليهما ، ومن اختار حيزا بالحلقة ، يزن على قدر عبرته في عبرته في السنة دنانير يحملها لبيت المال ، فإن كانت عبرة الحيز الذي يريده خمسمائة دينار في السنة ، حمل خمسمائة دينار ، ومن أراد النزول عن إقطاعه حمل مالا لبيت المال بحسب ما يقرّر عليه اغرلو ، وأفرد لذلك ولما يؤخذ من طالبي الوظائف والولايات ديوانا سمّاه ديوان البدل ، وكان يعين في المنشور الذي يخرج بالمقايضة ، المبلغ الذي يقوم به كلّ من الجنديين ، وكان ابتداء هذا في جمادى الأولى من السنة المذكورة ، فقام الأمراء في ذلك مع السلطان حتى رسم بإبطاله ، فلما ولي الأمير منجك اليوسفيّ الوزارة وسيره في المال ، فتح في سنة تسع وأربعين باب النزول والمقايضات ، فكان الجنديّ يبيع إقطاعه لكلّ من بذل له فيه مالا ، فأخذ كثير من العامّة الإقطاعات ، فكان يبذل في الإقطاع مبلغ عشرين ألف درهم ، وأقل منه على قدر متحصله ، وللوزير رسم معلوم ، ثم منع من ذلك ، فلما كانت نيابة الأمير سيف الدين قيلاي في سنة ثلاث وخمسين ، مشى أحوال الأجناد في المقايضات والنزولات ، فاشترى الإقطاعات الباعة وأصحاب الصنائع ، وبيعت تقادم الحلقة ، وانتدب لذلك جماعة عرفت بالمهيسين بلغت عدّتهم نحو الثلاثمائة مهيس ، وصاروا يطوفون على الأجناد ويرغبونهم في النزول عن إقطاعاتهم أو المقايضة بها ، وجعلوا لهم على كلّ ألف درهم مائة درهم ، فلما فحش الأمر أبطل الأمير شيخون العمري النزولات والمقايضات عندما استقرّ رأس نوبة ، واستقل بتدبير أمور الدولة ، وتقدّم لمباشري ديوان الجيش أن لا يأخذوا رسم المنشور والمحاسبة سوى ثلاثة دراهم ، بعد ما كانوا يأخذون عشرين درهما.
ذكر الحجبة
وكانت رتبة الحجبة في الدولة التركية جليلة ، وكانت تلي رتبة نيابة السلطنة ، ويقال لأكبر الحجبة حاجب الحجاب. وموضوع الحجبة أن متوليها بنصف من الأمراء والجند ، تارة بنفسه وتارة بمشاورة السلطان وتارة بمشاورة النائب ، وكان إليه تقديم من يعرض ومن يردّ ، وعرض الجند ، فإن لم يكن نائب السلطنة فإنه هو المشار إليه في الباب ، والقائم مقام النوّاب في كثير من الأمور ، وكان حكم الحاجب لا يتعدّى النظر في مخاصمات الأجناد