في التسريح عن مستقر الحمّام ، والقصد بذلك أنها لا ترجع إلى أبراجها من قريب ، وكان يعمل في الطيور السلطانية علائم ، وهي داغات في أرجلها أو على مناقيرها ، ويسميها أرباب الملعوب الاصطلاح ، وكان الحمام إذا سقط بالبطاقة لا يقطع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة ، وكانت لهم عناية شديدة بالطائر ، حتى أن السلطان إذا كان يأكل وسقط الطائر لا يمهل حتى يفرغ من الأكل ، بل يحل البطاقة ويترك الأكل ، وهكذا إذا كان نائما لا يمهل بل ينبه.
قال ابن عبد الظاهر : وهذا الذي رأينا عليه ملوكنا ، وكذلك في الموكب وفي لعب الأكرة ، لأنه بلمحة يفوت ولا يستدرك المهم العظيم ، إمّا من واصل أو هارب ، وإمّا من متجدّد في الثغور. قال : وينبغي أن تكتب البطائق في ورق الطير المعروف بذلك ، ورأيت الأوائل لا يكتبون في أولها بسملة ، وتؤرّخ بالساعة واليوم لا بالسنين ، وأنا أورخها بالسنة ، ولا يكثر في نعوت المخاطب فيها ، ولا يذكر حشو في الألفاظ ، ولا يكتب إلّا لبّ الكلام وزبدته ، ولا بدّ وأن يكتب سرّح الطائر ورفيقه ، حتى إن تأخر الواحد ترقّب حضوره ، أو تطلب ولا يعمل للبطائق هامش ولا تجمّل ، ويكتب آخرها حسبلة ، ولا تعنون إلّا إذا كانت منقولة ، مثل أن تسرّح إلى السلطان من مكان بعيد ، فيكتب لها عنوان لطيف حتى لا يفتحها أحد ، وكلّ وال تصل إليه يكتب في ظهرها أنها وصلت إليه ونقلها ، حتى تصل مختومة.
قال : ومما شاهدته وتوليت أمره ، أنّه في شهور سنة ثمان وثمانين وستمائة ، حضر من جهة نائب الصبيبة نيف وأربعون طائرا صحبة البرّاجين ، ووصل كتابه أنه درجها إلى مصر ، فأقامت مدّة لم يكن شغل تبطق فيه فقال برّاجوها : قد أزفّ الوقت عليها في القرنصة ، وجرى الحديث مع الأمير بيدار نائب السلطنة ، فتقرّر كتب بطائق على عشرة منها بوصولها لا غير ، وسرّحت يوم أربعاء جميعها ، فاتفق وقوع طائرين منها ، فأحضرت بطائقهما وحصل الاستهزاء بها ، فلما كان بعد مدّة وصل كتاب السلطان أنها وصلت إلى الصبيبة في ذلك اليوم بعينه ، وبطق بذلك في ذلك اليوم بعينه إلى دمشق ، ووصل الخبر إلى دمشق في يوم واحد ، وهذا مما أنا مصرّفه وحاضره والمشير به. قال مؤلفه رحمهالله : قد بطل الحمام من سائر المملكة إلّا ما ينقل من قطيا إلى بلبيس ومن بلبيس إلى قلعة الجبل ، ولا تسل بعد ذلك عن شيء. وكأني بهذا القدر وقد ذهب ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
ذكر ملوك مصر منذ بنيت قلعة الجبل
اعلم أن الذين ولوا أرض مصر في الملة الإسلامية على ثلاثة أقسام. القسم الأول : من ولي بفسطاط مصر ، منذ فتح الله تعالى أرض مصر ، على أيدي العرب أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورضي عنهم وتابعيهم فصارت دار إسلام ، إلى أن قدم القائد أبو الحسين جوهر من بلاد إفريقية بعساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى القاهرة ، وهؤلاء