ذكر قدوم الأويراتية
وكان من خبر هذه الطائفة : أنّ بيدو بن طرغاي بن هولاكو لما قتل في ذي الحجة ، سنة أربع وتسعين وسبعمائة ، وقام في الملك من بعده على المغل الملك غازان محمود بن خر بنده بن إيغاني ، تخوّف منه عدّة من المغل يعرفون بالأويراتية ، وفرّوا عن بلاده إلى نواحي بغداد ، فنزلوا هناك مع كبيرهم طرغاي ، وجرت لهم خطوب آلت بهم إلى اللحاق بالفرات فأقاموا بها هنالك ، وبعثوا إلى نائب حلب يستأذنوه في قطع الفرات ليعبروا إلى ممالك الشام ، فأذن لهم ، وعدّوا الفرات إلى مدينة بهنسا ، فأكرمهم نائبا وقام لهم بما ينبغي من العلوفات والضيافات ، وطولع الملك العادل زين الدين كتيفا ، وهو يومئذ سلطان مصر والشام بأمرهم ، فاستشار الأمراء فيما يعمل بهم ، فاتفق الرأي على استدعاء أكابرهم إلى الديار المصرية ، وتفريق باقيهم في البلاد الساحلية وغيرها من بلاد الشام ، وخرج إليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري ، والأمير شمس الدين سنقر الأعسر إلى دمشق ، فجهزا أكابر الأويراتية نحو الثلاثمائة للقدوم على السلطان ، وفرّقا من بقي منهم بالبقاع العزيزة وبلاد الساحل ، ولما قرب الجماعة من القاهرة ، وخرج الأمراء بالعسكر إلى لقائهم ، واجتمع الناس من كل مكان حتى امتلأ الفضاء للنظر إليهم ، فكان لدخولهم يوم عظيم ، وصاروا إلى قلعة الجبل ، فأنعم السلطان على طرغاي مقدّمهم بإمرة طبلخانة ، وعلى اللصوص بإمرة عشرة ، وأعطى البقية تقادما في الحلقة واقطاعات ، وأجرى عليهم الرواتب ، وأنزلوا بالحسينية ، وكانوا على غير الملة الإسلامية ، فشق ذلك على الناس ، وبلوامع ذلك منهم بأنواع من البلاء لسوء أخلاقهم ونفرة نفوسهم وشدّة جبروتهم ، وكان إذ ذاك بالقاهرة ومصر غلاء كبير وفناء عظيم ، فتضاعفت المضرّة واشتدّ الأمر على الناس ، وقال في ذلك الأديب شمس الدين محمد بن دينار :
ربنا اكشف عنا العذاب فإنّا |
|
قد تلفنا في الدولة المغلية |
جاءنا المغل والغلا فانصلقنا |
|
وانطبخنا في الدولة المغلية |
ولما دخل شهر رمضان من سنة خمس وتسعين وستمائة لم يصم أحد من الأويراتية ، وقيل للسلطان ذلك ، فأبى أن يكرههم على الإسلام ، ومنع من معارضتهم ونهى أن يشوّش عليهم أحد ، وأظهر العناية بهم ، وكان مراده أن يجعلهم عونا له يتقوّى بهم ، فبالغ في إكرامهم حتى أثر في قلوب إمراء الدولة منه احنا وخشوا إيقاعه بهم ، فإن الأويراتية كانوا أهل جنس كتيفا ، وكانوا مع ذلك صورا جميلة ، فافتتن بهم الأمراء وتنافسوا في أولادهم من الذكور والإناث ، واتخذوا منهم عدّة صيّروهم من جملة جندهم ، وتعشّقوهم ، فكان بعضهم يستنشد من صاحبه من اختص به وجعله محل شهوته ، ثم ما قنع الأمراء ما كان منهم بمصر حتى أرسلوا إلى البلاد الشامية واستدعوا منهم طائفة كبيرة ، فتكاثر نسلهم في القاهرة