وصاروا ضدّا للخوارج ، وما زال أمرهم يقوى وعددهم يكثر.
ثم حدث بعد عصر الصحابة رضياللهعنهم ، مذهب جهم بن صفوان ببلاد المشرق ، فعظمت الفتنة به. فإنه نفى أن يكون لله تعالى صفة ، وأورد على أهل الإسلام شكوكا أثر في الملة الإسلامية آثارا قبيحة ، تولد عنها بلاء كبير. وكان قبيل المائة من سني الهجرة ، فكثر أتباعه على أقواله التي تؤول إلى التعطيل ، فأكبر أهل الإسلام بدعته وتمالؤا على إنكارها وتضليل أهلها. وحذروا من الجهمية وعادوهم في الله وذمّوا من جلس إليهم ، وكتبوا في الردّ عليهم ما هو معروف عند أهله ، وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال ، منذ زمن الحسن بن الحسين البصريّ رحمهالله ، بعد المائتين من سني الهجرة ، وصنفوا فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد ، وأن الله تعالى لا يخلق الشرّ وجهلوا بأن الله لا يرى في الآخرة ، وأنكروا عذاب القبر على البدن ، وأعلنوا بأن القرآن مخلوق محدث ، إلى غير ذلك من مسائلهم ، فتبعهم خلائق في بدعهم ، وأكثروا من التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية ، فنهى أئمة الإسلام عن مذهبهم ، وذمّوا علم الكلام ، وهجروا من ينتحله ، ولم يزل أمر المعتزلة يقوى وأتباعهم تكثر ومذهبهم ينتشر في الأرض.
ثم حدث مذهب التجسيم المضادّ لمذهب الاعتزال ، فظهر محمد بن كرّام بن عراق بن حزابة ، أبو عبد الله السجستانيّ ، زعيم الطائفة الكرّامية بعد المائتين من سني الهجرة ، وأثبت الصفات حتى انتهى فيها إلى التجسيم والتشبيه ، وحج وقدم الشام ومات بزغرة ، في صفر سنة ست وخمسين ومائتين ، فدفن بالمقدس ، وكان هناك من أصحابه زيادة على عشرين ألفا على التعبد والتقشف ، سوى من كان منهم ببلاد المشرق ، وهم لا يحصون لكثرتهم ، وكان إماما لطائفتي الشافعية والحنفية ، وكانت بين الكرّامية بالمشرق وبين المعتزلة مناظرات ومناكرات وفتن كثيرة متعدّدة أزماتها. هذا وأمر الشيعة يفشو في الناس حتى حدث مذهب القرامطة ، المنسوبين إلى حمدان الأشعث المعروف بقرمط ، من أجل قصر قامته وقصر رجليه وتقارب خطوه ، وكان ابتداء أمر قرمط هذا في سنة أربع وستين ومائتين ، وكان ظهوره بسواد الكوفة فاشتهر مذهبه بالعراق ، وقام من القرامطة ببلاد الشام صاحب الحال والمدّثر والمطوّق ، وقام بالبحرين منهم أبو سعيد الجنابيّ من أهل جنابة ، وعظمت دولته ودولة بنيه من بعده ، حتى أوقعوا بعساكر بغداد وأخافوا خلفاء بني العباس ، وفرضوا الأموال التي تحمل إليهم في كل سنة على أهل بغداد وخراسان والشام ومصر واليمن ، وغزوا بغداد والشام ومصر والحجاز ، وانتشرت دعاتهم بأقطار الأرض ، فدخل جماعات من الناس في دعوتهم ومالوا إلى قولهم الذي سموه علم الباطن ، وهو تأويل شرائع الإسلام وصرفها عن ظواهرها إلى أمور زعموها من عند أنفسهم ، وتأويل آيات القرآن ودعوا هم فيها تأويلا بعيدا انتحلوا القول به بدعا ابتدعوها بأهوائهم ، فضلوا وأضلوا عالما كثيرا.