ولذلك لما اختلف هذان القطران ، أعني مصر والشام في محاذاة الكعبة ، اختلفت محاريبهما ، وعلى ذلك وضع الصحابة رضياللهعنهم محاريب الشام ومصر على اختلاف السمتين ، فأما مصر بعينها وضواحيها وما هو في حدّها أو على سمتها أو في البلاد الشامية وما في حدّها أو على سمتها ، فإنه لا يجوز فيها تصويب محرابين مختلفين اختلافا بينا ، فإن تباعد القطر عن القطر بمسافة قريبة أو بعيدة ، وكان القطران على سمت واحد في محاذاة الكعبة لم يضرّ حينئذ تباعدهما ، ولا تختلف محاريبهما ، بل تكون محاريب كلّ قطر منهما على حدّ واحد وسمت واحد ، وذلك كمصر وبرقة وأفريقية وصقلية والأندلس ، فإن هذه البلاد وان تباعد بعضها عن بعض فإنها كلها تقابل الكعبة على حدّ واحد ، وسمتها جميعها سمت مصر من غير اختلاف البتة ، وقد تبين بما تقرّر حال الأقطار المختلفة من الكعبة في وقوعها منها.
وأما اختلاف محاريب مصر فإن له أسبابا ، أحدها حمل كثير من الناس قوله صلىاللهعليهوسلم ، الذي رواه الحافظ أبو عيسى الترمذيّ ، من حديث أبي هريرة رضياللهعنه «ما بين المشرق والمغرب قبلة على العموم» وهذا الحديث قد روي موقوفا على عمر وعثمان وعليّ وابن عباس ومحمد ابن الحنفية رضياللهعنهم ، وروي عن أبي هريرة رضياللهعنه مرفوعا. قال أحمد بن حنبل : هذا في كلّ البلدان. قال : هذا المشرق وهذا المغرب وما بينهما قبلة ، قيل له : فصلاة من صلّى بينهما جائزة؟ قال : نعم ، وينبغي أن يتحرّى الوسط ، وقال أحمد بن خالد قول عمر : ما بين المشرق والمغرب قبلة ، قاله : بالمدينة فمن كانت قبلته مثل قبلة المدينة فهو في سعة مما بين المشرق والمغرب ، ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال. وقال أبو عمر بن عبد البرّ : لاختلاف بين أهل العلم فيه. قال مؤلفه رحمهالله : إذا تأمّلت وجدت هذا الحديث يختص بأهل الشام والمدينة. وما على سمت تلك البلاد شمالا وجنوبا فقط ، والدليل على ذلك أنه يلزم من حمله على العموم إبطال التوجه إلى الكعبة في بعض الأقطار ، والله سبحانه قد افترض على الكافة أن يتوجهوا إلى الكعبة في الصلاة حيثما كانوا بقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة / ١٤٤] وقد عرفت إن كنت تمهرت في معرفة البلدان وحدود الأقاليم أن الناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز ، فمن كان في الجهة الغربية من الكعبة فإن جهة قبلة صلاته إلى المشرق ، ومن كان في الجهة الشرقية من الكعبة فإنه يستقبل في صلاته جهة المغرب ، ومن كان في الجهة الشمالية من الكعبة فإنه يتوجه في صلاته إلى جهة الجنوب ، ومن كان في الجهة الجنوبية من الكعبة كانت صلاته إلى جهة الشمال ، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والجنوب فإن