تأخير فتح الدين والإيقاع به ، فإنه ثقل عليهم وجوده معهم ، فأمر عند ذلك الأمير الكبير بعقد مجلس حضره قضاة القضاة والأمراء وأهل الدولة عنده بالحراقة من باب السلسلة ، في يوم السبت تاسع عشري شهر رجب سنة خمس عشرة ، وتقدّم أخو جمال الدين ليدّعي على فتح الدين فتح الله كاتب السرّ ، وكان قد علم بذلك ووكل بدر الدين حسنا البردينيّ أحد نوّاب الشافعية في سماع الدعوى وردّ الأجوبة ، فعند ما جلس البردينيّ للمحاكمة مع أخي جمال الدين ، نهره الأمير الكبير وأقامه وأمر بأن يكون فتح الله هو الذي يدّعى عليه ، فلم يجد بدّا من جلوسه ، فما هو إلّا أن ادّعى عليه أخو جمال الدين بأنه وضع يده على مدرسة أخيه جمال الدين وأوقافه بغير طريق ، فبادر قاضي القضاة صدر الدين عليّ بن الأدميّ الحنفيّ وحكم برفع يده وعود أوقاف جمال الدين ومدرسته إلى ما نص عليه جمال الدين ، ونفذ بقية القضاة حكمه وانفضوا على ذلك ، فاستولى أخو جمال الدين وصهره شرف الدين على حاصل كبير كان قد اجتمع بالمدرسة من فاضل ربعها ومن مال بعثه الملك الناصر إليها ، وفرّقوه حتى كتبوا كتابا اخترعوه من عند أنفسهم جعلوه كتاب وقف المدرسة ، زادوا فيه أن جمال الدين اشترط النظر على المدرسة لأخيه شمس الدين المذكور وذريته ، إلى غير ذلك مما لفقوه بشهادة قوم استمالوهم فمالوا ، ثم أثبتوا هذا الكتاب على قاضي القضاة صدر الدين بن الأدميّ ، ونفذه بقية القضاة ، فاستمرّ الأمر على هذا البهتان المختلق والإفك المفترى مدّة ، ثم ثار بعض صوفية هذه المدرسة وأثبت محضرا بأن النظر لكاتب السرّ ، فلما ثبت ذلك نزعت يد أخي جمال الدين عن التصرّف في المدرسة ، وتولى نظرها ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السرّ ، واستمر الأمر على هذا ، فكانت قصة هذه المدرسة من أعجب ما سمه به في تناقض القضاة وحكمهم بإبطال ما صححوه ، ثم حكمهم بتصحيح ما أبطلوه ، كل ذلك ميلا مع الجاه وحرصا على بقاء رياستهم ، ستكتب شهادتهم ويسألون.
المدرسة الصرغتمشية
هذه المدرسة خارج القاهرة بجوار جامع الأمير أبي العباس أحمد بن طولون ، فيما بينه وبين قلعة الجبل ، كان موضعها قديما من جملة قطائع ابن طولون ، ثم صار عدّة مساكن ، فأخذها الأمير سيف الدين صرغتمش الناصريّ رأس نوبة النوب وهدمها وابتدأ في بناء المدرسة يوم الخميس من شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبعمائة ، وانتهت في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين ، وقد جاءت من أبدع المباني وأجلها وأحسنها قالبا وأبهجها منظرا ، فركب الأمير صرغتمش في يوم الثلاثاء تاسعه وحضر إليه الأمير سيف الدين شيخو العمريّ مدبر الدولة ، والأمير طاشتمر القاسميّ حاجب الحجاب ، والأمير توقتاي الدوادار ، وعامّة أمراء الدولة ، وقضاة القضاة الأربعة ، ومشايخ العلم ، ورتب مدرّس الفقه بها قوام الدين أمير كاتب بن أمير عمر العميد بن العميد أمير غازي الاتقانيّ ، فألقى القوام الدرس ، ثم مدّ سماط جليل بالهمة الملوكية ، وملئت البركة التي بها سكّرا قد أذيب بالماء ،