في العود مرض ولده أحمد ومرض من بعده ، فمات ابنه قبله بثلاثة أيام ، فحمل في تابوت مغشي بجلد جمل ، ولما مات بكتمر دفن مع ولده بنخل ، وحث السلطان في المسير وكان لا ينام في تلك السفرة إلّا في برج خشب ، وبكتمر عنده ، وقوصون على الباب والأمراء المشايخ كلهم حول البرج بسيوفهم ، فلما مات بكتمر ترك السلطان ذلك ، فعلم الناس أن احترازه كان خوفا من بكتمر. ويقال أن السلطان دخل عليه وهو مريض في درب الحجاز فقال له : بيني وبينك الله. فقال له : كل من فعل شيئا يلتقيه. ولما مات صرخت زوجته أمّ ابنه أحمد وبكت وأعولت إلى أن سمعها الناس تتكلم بالقبيح في حق السلطان ، من جملته : أنت تقتل مملوكك ، أنا ابني ايش كان؟ فقال لها : بس ، تفشرين ، هاتي مفاتيح صناديقه ، فأنا أعرف كل شيء أعطيته من الجواهر. فرمت بالمفاتيح إليه فأخذها ، ولما وصل السلطان إلى قلعة الجبل أظهر الحزن والندامة عليه ، وأعطى أخاه قماري أمرة مائة وتقدمة ألف ، وكان يقول ما بقي يجيئنا مثل بكتمر ، وأمر فحملت جثته وجثة ابنه إلى خانقاهه هذه ودفنتا بقبتها ، وبدت من السلطان أمور منكرة بعد موت بكتمر ، فإنه كان يحجر على السلطان ويمنعه من مظالم كثيرة ، وكان يتلطف بالناس ويقضي حوائجهم ويسوسهم أحسن سياسة ، ولا يخالفه السلطان في شيء ، ومع ذلك فلم يكن له حماية ولا رعاية ولا لغلمانه ذكر ، ومن المغرب يغلق باب إصطبله ، وكان ممّا له على السلطان من المرتب في كل يوم مخفيتان ، يأخذ عنهما من بيت المال كل يوم سبعمائة درهم ، عن كل مخفية ثلاثمائة وخمسين درهما ، وكان السلطان إذا أنعم على أحد بشيء أو ولّاه وظيفة قال له : روح إلى الأمير بكتمر وبوس يده ، وكان جيد الطباع حسن الأخلاق لين الجانب سهل الانقياد رحمهالله.
خانقاه قوصون
هذه الخانقاه في شماليّ القرافة مما يلي قلعة الجبل تجاه جامع قوصون ، أنشأها الأمير سيف الدين قوصون ، وكملت عمارتها في سنة ست وثلاثين وسبعمائة ، وقرّر في مشيختها الشيخ شمس الدين أبا الثناء محمود بن أبي القاسم أحمد الأصفهانيّ ، ورتب له معلوما سنيا من الدراهم والخبز واللحم والصابون والزيت وسائر ما يحتاج إليه ، حتى جامكية غلام بغلته ، واستقرّ ذلك في الوقف من بعده لكل من ولي المشيخة بها ، وقرّر بها جماعة كثيرة من الصوفية ، ورتب لهم الطعام واللحم والخبز في كل يوم ، وفي الشهر المعلوم من الدراهم ومن الحلوى والزيت والصابون ، وما زالت على ذلك إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة ، فبطل الطعام والخبز منها وصار يصرف لمستحقيها مال من نقد مصر ، وتلاشى أمرها من بعد ما كانت من أعظم جهات البرّ ، وأكثرها نفعا وخيرا ، وقد تقدّم ذكر قوصون عند ذكر جامعه من هذا الكتاب.