يعتقدون العمل بما في هذا التلمود. فلما قدم عانان رأس الجالوت إلى العراق ، أنكر على اليهود عملهم بهذا التلمود ، وزعم أن الذي بيده هو الحق ، لأنه كتب من النسخ التي كتبت من مشنا موسى عليهالسلام الذي بخطه ، والطائفة الربانيون ، ومن وافقهم لا يعوّلون من التوراة التي بأيديهم إلّا على ما في هذا التلمود ، وما خلف ما في التلمود لا يعبأون به ، ولا يعوّلون عليه ، كما أخبر تعالى إذ يقول حكاية عنهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف / ٢٢] ومن اطلع على ما بأيديهم وما عندهم من التوراة تبين له أنهم ليسوا على شيء ، وأنهم إن يتبعون إلّا الظنّ وما تهوى الأنفس ، ولذلك لما نبغ فيهم موسى بن ميمون القرطبيّ ، عوّلوا على رأيه ، وعملوا بما في كتاب الدلالة وغيره من كتبه ، وهم على رأيه إلى زمننا.
ذكر فرق اليهود الآن
اعلم أن اليهود الذين قطعهم الله في الأرض أمما أربع فرق ، كلّ فرقة تخطّيء الطوائف الأخر ، وهي طائفة الربانيين ، وطائفة القرّائين ، وطائفة العانانية ، وطائفة السمرة. وهذا الاختلاف حدث لهم بعد تخريب بخت نصر بيت المقدس وعودهم من أرض بابل بعد الجلاية إلى القدس ، وعمارة البيت ثانيا. وذلك أنهم في إقامتهم بالقدس أيام العمارة الثانية افترقوا في دينهم ، وصاروا شيعا. فلما ملكهم اليونان بعد الإسكندر بن فيلبش ، وقام بأمرهم في القدس هور قانوس بن شمعون بن مشيثا ، واستقام أمره فسمي ملكا ، وكان قبل ذلك هو وجميع من تقدّمه ممن ولي أمر اليهود في القدس بعد عودهم من الجلاية إنما يقال له الكوهن الأكبر ، فاجتمع لهور قانوس منزلة الملك ومنزلة الكهونية ، واطمأنّ اليهود في أيامه وأمنوا سائر أعدائهم من الأمم ، فبطروا معيشتهم واختلفوا في دينهم وتعادوا بسبب الاختلاف ، وكان من جملة فرقهم إذ ذاك طائفة يقال لهم الفروشيم ، ومعناه المعتزلة ، ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم. وطائفة يقال لهم الصدوفية بفاء ، نسبوا إلى كبير لهم يقال له صدوف ، ومذهبهم القول بنص التوراة وما دلّ عليه القول الإلهيّ فيها دون ما عداه من الأقوال ، وطائفة يقال لهم الجسديم ، ومعناه الصلحاء ، ومذهبهم الاشتغال بالنسك وعبادة الله سبحانه والأخذ بالأفضل والأسلم في الدين ، وكانت الصدوفية تعادي المعتزلة عداوة شديدة ، وكان الملك هور قانوس أوّلا على رأي المعتزلة ، وهو مذهب آبائه ، ثم إنه رجع إلى مذهب الصدوفية وباين المعتزلة وعاداهم ، ونادى في سائر مملكته بمنع الناس جملة من تعلم رأي المعتزلة ، والأخذ عن أحد منهم ، وتتبعهم وقتل منهم كثيرا. وكانت العامّة بأسرها مع المعتزلة ، فثارت الشرور بين اليهود واتصلت الحروب بينهم ، وقتل بعضهم بعضا إلى أن خرب البيت على يد طيطش الخراب