وقال آخر : ما فيه عمود. وقال آخر : ليست له ميضأة. فجمع الناس وقال : أما المحراب فإني رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد خطه لي ، فأصبحت فرأيت النمل قد أطافت بالمكان الذي خطه لي ، وأما العمد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز ، وما كنت لأشوبه بغيره ، وهذه العمد إمّا أن تكون من مسجد أو كنيسة فنزهته عنها ، وأما الميضأة فإني نظرت فوجدت ما يكون بها من النجاسات فطهرته منها ، وها أنا أبنيها خلفه ، ثم أمر ببنائها. وقيل أنه لما فرغ من بنائه رأى في منامه كأن نارا نزلت من السماء فأخذت الجامع دون ما حوله ، فلما أصبح قص رؤياه ، فقيل له : أبشر بقبول الجامع ، لأنّ النار كانت في الزمان الماضي إذا قبل الله قربانا نزلت نار من السماء أخذته ، ودليله قصة قابيل وهابل. قال : ورأيت من يقول أنه عمّر ما حوله حتى كان خلفه مسطبة ذراع في ذراع ، أجرتها في كلّ يوم اثنا عشر درهما ، في بكرة النهار ، لشخص يبيع الغزل ويشتريه ، والظهر لخباز ، والعصر لشيخ يبيع الحمص والفول.
وقيل عن أحمد بن طولون أنه كان لا يعبث بشيء قط ، فاتفق أنه أخذ درجا أبيض بيده وأخرجه ومدّه واستيقظ لنفسه وعلم أنه قد فطن به ، وأخذ عليه لكونه لم تكن تلك عادته ، فطلب المعمار على الجامع وقال : تبني المنارة التي للتأذين هكذا ، فبنيت على تلك الصورة ، والعامّة يقولون أن العشاري الذي على المنارة المذكورة يدور مع الشمس ، وليس صحيحا وإنما يدور مع دوران الرياح ، وكان الملك الكامل قد اعتنى بوقودها ليلة النصف من شعبان ، ثم أبطلها. وقال المسبحيّ : إن الحاكم أنزل إلى جامع ابن طولون ثمانمائة مصحف وأربعة عشر مصحفا. وفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة في ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى ، احترقت الفوّارة التي كانت بجامع ابن طولون فلم يبق منها شيء ، وكانت في وسط صحنه قبة مشبكة من جميع جوانبها ، وهي مذهبة على عشر عمد رخام وستة عشر عمود رخام في جوانبها ، مفروشة كلها بالرخام ، وتحت القبة قصعة رخام فسحتها أربعة أذرع ، في وسطها فوّارة تفور بالماء ، وفي وسطها قبة مزوّقة يؤذن فيها ، وفي أخرى على سلمها ، وفي السطح علامات الزوال ، والسطح بدرابزين ساج ، فاحترق جميع هذا في ساعة واحدة. وفي المحرّم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة أمر العزيز بالله بن المعز ببناء فوّارة عوضا عن التي احترقت ، فعمل ذلك على يد راشد الحنفيّ ، وتولى عمارتها ابن الرومية وابن البناء ، وماتت أمّ العزيز في سلخ ذي القعدة من السنة والله أعلم.
تجديد الجامع : وكان من خبر جامع ابن طولون أنه لما كان غلاء مصر في زمان المستنصر ، وخربت القطائع والعسكر ، عدم الساكن هناك وصار ما حول الجامع خرابا ، وتوالت الأيام على ذلك وتشعث الجامع وخرب أكثره ، وصار أخيرا ينزل فيه المغاربة بأباعرها ومتاعها عند ما تمرّ بمصر أيام الحج ، فهيأ الله جلّ جلاله لعمارة هذا الجامع ، أن كان بين الملك الأشرف خليل بن قلاون وبين الأمير بيدر أمور موشحة تزايدت وتأكدت ،