جمادى الآخرة المذكور ، وسير أهلها فتفرّقوا في البلاد ، وشرع في هدمها وقسم أبراجها على الأمراء ، فابتدأ في ذلك من ثاني عشريه ، وقاسوا شدّة في هدمها لحصانتها وقوّة بنائها ، لا سيما القلعة ، فإنها كانت حصينة عالية الارتفاع ولها أساسات إلى الأرض الحقيقة ، وباشر السلطان الهدم بنفسه وبخواصه ومماليكه ، حتى غلمان البيوتات التي له ، وكان ابتداء هدم القلعة في سابع عشريه ، ونقضت من أعلاها ونظفت زلاقتها ، واستمرّ الأجناد في ذلك ليلا ونهارا ، وأخذ من أخشابها جملة ، ومن ألواح الرخام التي وجدت فيها ، ووسق منها مركبا من المراكب التي وجدت في يافا وسيرها إلى القاهرة ، ورسم بأن يعمل من ذلك الخشب مقصورة في الجامع الظاهريّ بالميدان من الحسينية ، والرخام يعمل بالمحراب ، فاستعمل كذلك.
ولما عاد السلطان إلى مصر في حادي عشري ذي الحجة منها وقد فتح في هذه السفرة يافا وطرابلس وأنطاكية وغيرها ، أقام إلى أن أهلت سنة سبع وستين وستمائة ، فلما كملت عمارة الجامع في شوّال منها ركب السلطان ونزل إلى الجامع وشاهده ، فرآه في غاية ما يكون من الحسن وأعجبه نجازه في أقرب وقت ومدّة مع علوّ الهمة ، فخلع على مباشريه ، وكان الذي تولى بناءه الصاحب بهاء الدين بن حنا ، والأمير علم الدين سنجر السروريّ متولى القاهرة ، وزار الشيخ خضرا وعاد إلى قلعته ، وفي شوّال منها تمت عمارة الجامع الظاهريّ ورتب به خطيبا حنفيّ المذهب ، ووقف عليه حكر ما بقي من أرض الميدان ، ونزل السلطان إليه ورتب أوقافه ونظر في أموره.
بيبرس : الملك الظاهر ركن الدين البندقداريّ ، أحد المماليك البحرية الذين اختص بهم السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ، وأسكنهم قلعة الروضة ، كان أوّلا من مماليك الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ ، فلما سخط عليه الملك الصالح أخذ مماليكه ومنهم الأمير بيبرس هذا ، وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة ، وقدّمه على طائفة من الجمدارية ، وما زال يترقى في الخدم إلى أن قتل المعز أيبك التركمانيّ الفارس أقطاي الجمدار في شعبان سنة اثنتين وخمسين وستمائة ، وكانت البحرية قد انحازت إليه فركبوا في نحو السبعمائة ، فلما ألقيت إليهم رأس أقطاي تفرّقوا واتفقوا على الخروج إلى الشام ، وكانت أعيانهم يومئذ بيبرس البندقداريّ ، وقلاون الألفيّ ، وسنقر الأشقر ، وبيسرى ، وترامق ، وتنكز ، فساروا إلى الملك الناصر صاحب الشام. ولم يزل بيبرس ببلاد الشام إلى أن قتل المعز أيبك ، وقام من بعده ابنه المنصور عليّ ، وقبض عليه نائبه الأمير سيف الدين قطز وجلس على تخت المملكة ، وتلقب بالملك المظفر ، فقدم عليه بيبرس فأمّره المظفر قطز ، ولما خرج قطز إلى ملاقاة التتار وكان من نصرته عليهم ما كان ، رحل إلى دمشق فوشى إليه بأن الأمير بيبرس قد تنكر له وتغير عليه ، وأنه عازم على القيام بالحرب ، فأسرع قطز بالخروج من دمشق إلى جهة مصر وهو