الرأي ، عارفا بتدبير الحرب ، حميّ الأنف ، عظيم السّطوة ، مشهور الإقدام ، مرتكبا للعظيمة. قال بعض من عرّف به من المؤرّخين : وهو وإن كان قائد فرسان ، هو حليف فتنة وعدوان ، ولم يصحب قطّ متشرّعا ، ولا نشأ في أصحابه من كان متورّعا ، سلّطه الله على الخلق وأملى له فأضرّ بمن جاوره من أهل البلاد ، وحبّب إليه العيث في العباد.
سيرته : كان جبّارا قاسيا ، فظّا غليظا ، شديد النّكال ، عظيم الجرأة والعبث بالخلق ؛ بلغ من عيثه فيهم إحراقهم بالنّار ، وقذفهم من الشواهق والأبراج ، وإخراج الأعصاب والرّباطات على ظهورهم ، عن أوتار القسيّ بزعمه ، وضمّ أغصان الشجر العادي بعضها إلى بعض ، وربط الإنسان بينها ، ثم تسريحها ، حتى يذهب كل غصن بحظّه من الأعضاء ؛ ورآه بعض الصالحين في النوم بعد موته ، وسأله ما فعل الله بك فأنشده : [البسيط]
من سرّه العيث في الدنيا بخلقة من |
|
يصوّر الخلق في الأرحام كيف يشا |
فليصبر اليوم صبري تحت بطشته |
|
مغلّلا يمتطي جمر الغضا فرشا |
شجاعته : زعموا أنه خرج من المواضع التي كانت لنصره متصيّدا ، وفي صحبته محاولو اللهو وقارعو أوتار الغناء ، في مائة من الفرسان ، ونقاوة أصحابه ؛ فما راعهم إلّا خيل العدو هاجمة على غرّة ، في مائتي فارس ضعف عددهم ؛ فقالوا : العدو في مائتي فارس ، فقال : وإذا كنتم أنتم لمائة ، وأنا لمائة ، فنحن قدرهم ؛ فعدّ نفسه بمائة. ثم استدعى قدحا من شرابه ، وصرف وجهه إلى المغنّي ؛ وقال : أعد لي تلك الأبيات ، كان يغنّيه بها فتعجبه : [الخفيف]
يتلقى النّدا بوجه حييّ |
|
وصدور القنا بوجه وقاح |
هكذا هكذا تكون المعالي |
|
طرق الجدّ غير طرق المزاح |
فغنّاه بها ، واستقبل العدوّ ، وحمل عليه بنفسه وأصحابه ، حملة رجل واحد ، فاستولت على العدو الهزيمة ، وأتى على معظمهم القتل ، ورجع غانما إلى بلده. ثم ضربت الأيام ، وعاود التصيّد في موضعه ذلك ، وأطلق بازه على حجلة ، فأخذها ، وذهب ليذكيها ، فلم يحضره خنجر ذلك الغرض في الوقت ، فبينما هو يلتمسه ، إذ رأى نصلا من نصال المعترك من بقايا يوم الهزيمة ، فأخذه من التراب ، وذبح به الطائر ، ونزل واستدعى الشراب ؛ وأمر المغني فغنّاه بيتي أبي الطيب (١) :
__________________
(١) هما مطلعا قصيدة مديح من ٤٧ بيتا ، وهما في ديوان المتنبي (ص ٤١١).