فخرج من ظاهر المهدية في أهبة ضخمة ، وتعبئة محكمة ، والتقى الجمعان ، فكانت على ابن غانية ، الدائرة ، ونصر الشيخ محمد نصرا لا كفاء له ، وفي ذلك يقول أحمد بن خالد من شعر عندهم : [الطويل]
فتوح بها شدّت عرى الملك والدّين |
|
تراقب منّا منكم غير ممنون |
وفتحت المهدية على هيئة ذلك الفتح ، وانصرف الناصر إلى تونس ، ثم تفقّد البلاد ، وأحكم ثقافها (١) ، وشرع في الإياب إلى المغرب ، وترجّح عنده تقديم أبي محمد بن أبي حفص المصنوع له بإفريقية ، على ملكها ، مستظهرا منه بمضاء وسابقة وحزم ؛ بسط يده في الأموال ، وجعل إليه النظر في جميع الأمور ، سنة ثلاث وستمائة. ثم كان اللقاء بينه وبين ابن غانية في سنة ست بعدها ؛ فهزم ابن غانية ، واستولى على محلّته ؛ فاتصل سعده ، وتوالى ظهره ، إلى أن هلك مشايعا لقومه من بني عبد المؤمن ، مظاهرا بدعوتهم عام تسعة وعشرين وستمائة (٢).
وولي أمره بعده ، كبير ولده ، عبدالله ، على عهد المستنصر بالله بن الناصر من ملوكهم ؛ وقد كان الشيخ أبو محمد زوحم ، عند اختلال الدولة ، بالسيد أبي العلاء الكبير ، عمّ أبي المستنصر على أن يكون له اسم الإمارة بقصبة تونس ، والشيخ أبو محمد على ما لسائر نظره ؛ فبقي ولده عبد الله على ذلك بعد ، إلى أن كان ما هو أيضا معروف من تصيّر الأمر إلى المأمون أبي العلاء إدريس ، ووقعه السيف في وجوه الدولة بمراكش ، وأخذه بثرّة (٣) أخيه وعمّه منهم. وثار أهل الأندلس على السيد أبي الربيع بعده بإشبيلية وجعجعوا بهم ، وأخذوا في التشريد بهم ، وتبديد دعوتهم ؛ واضطربت الأمور ، وكثر الخلاف ، ولحق الأمير أبو زكريا بأخيه بإفريقية ، وعرض عليه الاستبداد ، فأنف من ذلك ، وأنكره عليه إنكارا شديدا ، خاف منه على نفسه ؛ فلحق بقابس فارّا ، واستجمع بها مع شيخها مكّي ، وسلف شيوخها اليوم من بني مكي ؛ فمهّد له ، وتلقّاه بالرحب ، وخاطب له الموحدين سرّا ، فوعدوه بذلك ، عند خروج عبد الله من تونس إلى الحركة ، من جهة القيروان. فلمّا تحرّك نحوا عليه ، وطلبوا منه المال ، وتلكّأ ، فاستدعوا أخاه الأمير أبا زكريا ، فلم يرعه وهو قاعد في خبائه آمن في سربه ، إلّا ثورة الجند به ، والقبض عليه ، ثم طردوه إلى مرّاكش ؛ وقعد
__________________
ـ قليل. انظر الأعلام للزركلي (ج ٤ ص ١٧٦) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.
(١) أحكم ثقافها : أحكم تحصينها ؛ من قوله : ثقفه بالرمح : أي طعنه. لسان العرب (ثقف).
(٢) تقدّم في الصفحة السابقة أن وفاة عبد الواحد بن أبي حفص كانت سنة ٦١٨ ه.
(٣) الثّرّة : الطعنة الكثيرة الدم ، والمراد أنه أخذ بالثأر.