البروج في زهرها ، والأفنية في إيوانها ، والأندية في شعب بوّانها (١) ، لو رآها النعمان لهجر سديره ، أو كسرى لنبذ إيوانه وسريره ، أو سيف لقصّر عن غمدانه ، أو حسّان لترك جلّق (٢) لغسّانه : [الطويل]
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي |
|
وأول أرض مسّ جلدي ترابها |
فإذا قضيت من فرض السلام ختما ، وقضت من فاره الثّناء حتما ، ونفضت طيب عرارها على تلك الأنداء ، واقتطفت أزاهر محامدها أهل الودّ القديم والإخاء ، وعمّت من هنالك من الفضلاء ، وتلت سور آلائها على منبر ثنائها ، وقصّت وعطفت على من تحمل من الطلبة بشارتهم ، وصدرت عن إشارتهم ، وأنارت نجما حول هالتهم المنيرة ودارتهم ، فهناك تقصّ أحاديث وجدي على تلك المناهج ، لا إلى صلة عالج ، وشوقي إلى تلك العليا ، لا إلى عبلة ، والجزا إلى ذلك الشريف الجليل ، فسقى الله تلك المعاهد غيداقا (٣) يهمي دعاؤها ، ويغرق روضها إغراقا ، حتى تتكلّل منه نحور زندها درّا ، وترنو عيون أطراف نرجسها إلى أهلها سررا ، وتتعانق قدود أغصانها طربا ، وتعطف خصور مذانبها على أطراف كثبانها لعبا ، وتضحك ثغور أقاحيها (٤) عند رقص أدواحها عجبا ، وتحمّر خدود وردها حياء ، وتشرق حدائق وردها سناء ، وتهدي إلى ألسنة صباها خبر طيبة (٥) وإنباء ، حتى تشتغل المطريّة عن روضتها المردودة ، والمتكلّىء عن مشاويه المجودة ، والبكري عن شقائق رياض روضته النديّة ، والأخطل عن خلع بيعته الموشيّة. فما الخورنق (٦) وسراد ، والرّصافة وبغداد ، وما لفّ النّيل في ملأته كرما إلى أفدين سقايته ، وحارته غمدان عن محراب ، وقصر وابرية البلقاء عن غوطة ونهر ، بأحسن من تلك المشاهد التي تساوي في حسنها الغائب والشاهد. وما لمصر تفخر بنيلها ، والألف منها في شنيلها (٧) ، وإنما زيدت الشين هنالك ليعد بذلك : [الوافر]
ويا لله من شوق حثيث |
|
ومن وجد تنشّط بالصميم |
إذا ما هاجه وجد حديث |
|
صبا منها إلى عهد قديم |
__________________
(١) شعب بوّان : موضع بأرض فارس ، وهو أحد متنزهات الدنيا. معجم البلدان (ج ١ ص ٥٠٣).
(٢) جلّق : هي دمشق نفسها ، وقيل : موضع بقرية من قرى دمشق. معجم البلدان (ج ٢ ص ١٥٤).
(٣) الغيداق من الشباب : الناعم ، والجمع غياديق. محيط المحيط (غيدق).
(٤) في الأصل : «أقاحها» ، والأقاحيّ : جمع أقحوان وهو نبات. محيط المحيط (قحا).
(٥) طيبة : اسم لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. معجم البلدان (ج ٤ ص ٥٣).
(٦) الخورنق : قصر كان بظهر الحيرة. معجم البلدان (ج ١ ص ٤٠١).
(٧) ورد قول ابن الخطيب هذا في نفح الطيب (ج ١ ص ١٤٨).