خط ، وجودة أدب ، وإطلاق يد ، وظهور كفاية ؛ وفي أثناء هذا الحال ، يقيد ولا يفتر ، ويروي الحديث ، ويعلّق الأناشيد ، ولا يغبّ النظم والنثر ، ولا يعفي القريحة ، معمّى ، مخوّلا في العناية ، مشتملا على الطهارة ، بعيدا في زمان الشّبيبة عن الرّيبة ، نزيها على الوسامة عن الصّبوة والرّقية ، أعانه على ذلك نخوة في طبعه ، وشفوف وهمّة. كان مليح الدّعابة ، طيّب الفكاهة ، آثر المشرق ، فانصرف عن الأندلس في محرّم عام سبعة وثلاثين وسبعمائة ، وألمّ بالدول ، محرّكا إياها بشعره ، هازّا أعطافها بأمداحه ؛ فعرف قدره ، وأعين على طيّته ؛ فحجّ وتطوّف ، وقيّد ، واستكثر ، ودوّن في رحلة سفره ؛ وناهيك بها طرفة ؛ وقفل إلى إفريقية ، وكان علق بخدمة بعض ملوكها ، فاستقرّ ببجاية لديه ، مضطلعا بالكتابة والإنشاء. ثم انتقل إلى خدمة سلطان المغرب ، أمير المسلمين أبي الحسن ؛ ولم ينشب أن عاد إلى البلاد المشرقية ، فحجّ ، وفصل إلى إفريقية ، وقد دالت الدولة بها بالسلطان المذكور ، فتقاعد عن الخدمة ، وآثر الانقباض ؛ ثم ضرب الدهر ضرباته ، وآل حال السلطان إلى ما هو معروف ، وثابت للموحّدين برملة بجاية بارقة لم تكد تتقد حتى خبت ، فعاد إلى ديوانه من الكتابة عن صاحب بجاية. ثم أبى مؤثرا للدّعة في كنف الدولة الفارسية (١) ، ونفض عن الخدمة يده ، لا أحقّق مضطرا أم اختيارا ، وحجة كليهما قائمة لديه ، وانقطع إلى تربة الشيخ أبي مدين (٢) بعبّاد تلمسان ، مؤثرا للخمول ، عزيزا به ، ذاهبا مذهب التّجلّة من التجريد والعكوف بباب الله ، مفخرا لأهل نحلته ، وحجّة على أهل الحرص والتهافت ، من ذوي طبقته ، راجع الله بنا إليه بفضله. ثم جبرته الدولة الفارسية على الخدمة ، وأبرته بزّة النّسك ، فعاد إلى ديدنه من الكتابة ، رئيسا ومرءوسا. ثم أفلت نفيه موت السلطان أبي عنان فلحق بالأندلس ، وتلقي ببرّ وجراية ، وتنويه وعناية ، واستعمل في السفارة إلى الملوك ؛ وولّي القضاء في الأحكام الشرعية بالقليم بقرب الحضرة ؛ وهو الآن بحاله الموصوفة ، صدرا من صدور القطر وأعيانه ، يحضر مجلس السلطان ، ويعدّ من نبهاء من ينتاب بابه ، وقد توسّط من الاكتهال ، مقيما لرسم الكتابة والظرف مع الترخيص للباس الحرير ، والخضاب بالسواد ، ومصاحبة الأبّهة ، والحرص على التّجلّة.
__________________
(١) أي في دولة السلطان فارس أبي عنان.
(٢) الشيخ أبو مدين : هو الصوفي شعيب بن الحسين التلمساني ، الأندلسي الأصل ، المتوفّى بتلمسان سنة ٥٩٤ ه. وقبره بعبّاد تلمسان ويزار إلى جانب مدافن الأولياء. الأعلام (ج ٣ ص ١٦٦) وفيه ثبت بأسماء مصادر ترجمته.