يناشدهم الذّمام ، فخفّ إليه منهم الكثير ، وتراكموا بالطريق تحته ، وتولّى استنزاله عن سويّه مملوك أبيه ، العلج المخذول عبّاد ، وقد تحصّل في قبضته الغادر ، فقتل له في الغارب والذّروة ، ووعده الحياة ، فنزل عن أمان فسحة الغدر الصّراح ، والوفاء المستباح. ولحين استهاله ، أمر نقله إلى المطبق ، فقيد مختبلا كثير الضراعة ، إلى الأريّ (١) لصق قصره ، وتعاورته السيوف ، وألحق به صغيره قيس ، استخرج من بعض الخزائن ، وقد جهدت أمّه في إخفائه ؛ فمضى لسبيله ، وطرح رأسه على الرّعاع المجيبين لندائه ، فانفضّوا لحينه ، وبقي مطروحا موارى بحلس (٢) دابّة من دواب الظهر ، إلى يوم بعده ، فووري هو وأخوه بمقربة من مدفن أبيهما ، فكان من أمرهما عبرة. وقد استوفى ذلك الكتاب المسمى ب «نفاضة الجراب» من تأليفنا.
وزراء دولته : قدّم للوزارة عشية (٣) يوم ولايته ، محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري ، بطالع الشؤم ، ونعبة النحس. عهد بالطبيب الإسرائيلي الحبري العظيم المهارة في الفن النجومي ، إبراهيم بن زرزار ، يتطاير بتلك الولاية بكون النّحس الأعظم في درجة طالعها ، جذوا انفرد بنحز أديمه الجهّالة ، المعدودون في البهم والهمج ، الذين لا يعبأ الله بهم ؛ فكان الخبر وفوق الخبر ، فلم ير في الأندلس وزارة أثقل وطأة ، ولا أخبث عهدا ، ولا أعظم شرها ، ولا أكثر حجرا منها. ثم كانت عاقبتهما أنهما في النار خالدان فيها ، وذلك جزاء الظالمين من رجل حبركى (٤) ، كمد اللون ، تنطف سحنته مرّة وسمّا ، غائر العين ، مطأطئ الرأس ، طرف في الحقد والطمع وعيّ المنطق وجمود الكفّ ، معدن من معادن الجهل ، مثل في الخيانة ؛ تناول الأمر مزاحما فيه بالرئيس المتوثّب ، وابن عمّ نفسه ، الغادر ، الضخم الجرارة ، بالوعث المهين ، وثور النقل ، وثعبان الفواكه ، وصاعقة الأخونة (٥) ، ووكيل الدولة المنحطّ عن خلالهم بالأبوّة والنشأة ؛ فجرت أمورها أسوأ مجاريها ، إلى أن كان ما أذن الله به ، من مداخلة الرئيس الغادر ، على قتل أميره المسكين المهين ، مقلّده أنوه الرّتب ، وتاركه وخطة الخيانة ؛ ثم أخذه الأخذة الرابية بيد من أمدّه في الغيّ ، وظاهره في الخزي ؛ فجعله نكالا لما بين يديه وما خلفه ، وموعظة للمتّقين ، حسبما يأتي في اسمه ، بحول الله تعالى.
__________________
(١) الأريّ : محبس الدواب. لسان العرب (أري).
(٢) الحلس : كساء تجلّل به الدابّة تحت البردعة. لسان العرب (حلس).
(٣) في اللمحة البدرية (ص ١٢٧): «عشيّ».
(٤) الحبركى : الغليظ الرقبة والضعيف الرّجلين كأنه مقعد لضعفهما. لسان العرب (حبرك).
(٥) الأخونة : جمع خوان وهو المائدة. لسان العرب (خون).