ولمّا جنّ الليل ، أمر أميرهم (١) برفع خبائه من وهدة كان فيها إلى نجدة ، فساءت الظنون ، واختلّ الأمر ، ففرّ الناس وأسلموا ، وتهيّب العدو المحلّة ، فلم يدخلها إلّا بعد هدأة من الليل واستولى عليها. وتحرّك بعد الغد منها إلى جهة الساحل فشقّ العمامة الآمنة من الإقليم والشّارّات (٢) ، فيقول بعض شيوخ تلك الجهة : إنه اجتاز بوادي شلوبانية المطلّ الحافّات ، والمتحصّن المجاز ، وقال بلغته : أيّ قبر هذا لو ألفينا من يصبّ علينا التراب! ثم عرّج يمنة حتى انتهى إلى بلّش ، وأنشأ بها جفنا (٣) صغيرا يصيد له حوتا ، أكل منه كأنه نذر كان عليه ، وفّى به ، أو حديث أراد أن يخلّد عنه ، ثم عاد إلى غرناطة ، فاضطرب بها محلته بقرية ذكر ، على ثلاثة فراسخ منها قبلة ، ثم انتقل بعد ذلك بيومين إلى قرية همدان (٤) ، وبرز بالكتب جاعرسطة (٥) من المدينة ، وكان بينه وبين عساكر المسلمين مواقعة عظيمة ؛ ولأهل غرناطة بهذا الموضع حدثان ينظرونه من القضايا المستقبلة.
قال ابن الصّيرفي : وقد ذكر في بعض كتب الجفر : «هذا الفحص ، بخراب يجبى عن يتامى وأيامى». وكان هذا اليوم معرّضا لذلك ، فوقى الله ؛ وانتقل بعد يومين إلى المرج مضيّقا عليه والخيل تحرجه ، فنزل بعين أطسة ، والجيوش محدقة به ، وهو في نهاية من كمال التّعبئة ، وأخذ الحذر ، بحيث لا تصاب فيه فرصة ؛ ثم تحرّك على البراجلات ، إلى اللقوق ، إلى وادي آش ، وقد أصيب كثير من حاميته ؛ وطوى المراحل إلى الشرق ؛ فاجتاز إلى مرسية ، إلى جوف شاطبة ، والعساكر في كل ذلك تطأ أذياله ، والتّناوش (٦) يتخطّر به ، والوباء يسرع إليه ، حتى لحق بلاده ، وهو ينظر إلى قفاه ، مخترما ، مفلولا من غير حرب ، يكاد الموت يستأصل محلّته وجملته.
ولمّا بان للمسلمين من مكيدة جيرانهم المعاهدين ، ما أجلت عنه هذه القضية ، أخذهم الإرجاف ، ووغرت لهم الصّدور. ووجّه إلى مكانهم الحزم ، ووجّه القاضي
__________________
ـ أرنيسول وقال : إنه حصن منيع. الكامل في التاريخ (ج ١٠ ص ٦٣١).
(١) في البيان المغرب : «فلما طفلت الشمس أمر الأمير تميم برفع خبائه».
(٢) الشّارات أو البشرّات : بالإسبانيةAlpujarras ، وهي المنطقة الجبلية الواقعة جنوب سفوح جبل شلير. راجع : مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٤٦).
(٣) الجفن : المركب أو السفينة الحربية. ملحق القواميس العربية لدوزي (ج ١ ص ٢٠١).
(٤) همدان : بالإسبانيةAlhendin ، سمّيت بذلك نسبة إلى قبيلة همدان لأنها نزلت بها. تأريخ المن بالإمامة (ص ١٩١) ، ومملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٧١).
(٥) أغلب الظن أنه اسم أحد زعماء النصارى المعاهدين ، وهو : Inigo Arista.
(٦) في البيان المغرب : «وتناوشه وتصيب منه».