نفسه الخبيثة تمالؤ رعيّته من أهل الأندلس ، على الذي دهى أبا نصر ، فسوّلت له نفسه حمل السيف على أهل حضرته جميعا ، مستحضرا لهم ، وكيما ينبرهم ، ويخلص برابرته وعبيده فيريح نفسه ، ودبر أن يأتي ذلك إليهم عند اجتماعهم بمسجدهم الجامع الأقرب أيام الجمعة ، من قوة همومه ؛ وشاور وزيره اليهودي يوسف بن إسماعيل ، مدبّر دولته الذي لا يقطع أمرا دونه ، مستخليا مستكتما بسرّه ، مصمّما في عزمه ، إن هو لم يوافقه عليه ؛ فنهاه عن ذلك وخطّأ رأيه فيه ، وسأله الأناة ومحض الرويّة ، وقال له : هبك وصلت إلى إرادتك ممّن بحضرتك ، على ما في استباحتهم من الخطر ، فأنّى تقدر على الإحاطة بجميعهم من أهل حضرتك ، وبسائط أعمالك؟ أتراهم يطمئنون إلى الذّهول عن مصائبهم ، والاستقرار في موضعهم؟ ما أراهم إلّا سيوفا ينتظمون عليك في جموع ، يغرقونك في لججها أنت وجندك ؛ فردّ نصيحته ، وأخذ الكتمان عليه ، وتقدّم إلى عارضه باعتراض الجند في السلاح ، والتّعبئة لركوبه يوم الفتكة ، يوم تلك الجمعة ، فارتجّ البلد. وذكر أن اليهودي دسّ نسوانا إلى معارف لهنّ من زعماء المسلمين بغرناطة ، ينهاهم عن حضور المسجد يومهم ، ويأمرهم بإخفاء أنفسهم ؛ وفشا الخبر فتخلّف الناس عن شهود الجمعة ؛ ولم يأته إلّا نفر من عامّتهم ، اقتدوا بمن أتاه من مشيخة البربر وأغفال القادمين ؛ وجاء إلى باديس الخبر ، والجيش في السلاح حوالي قصره ، فساءه وفتّ في عضده ، ولم يشكّ في فشوّ سرّه ، وأحضر وزيره وقلّده البوح بسرّه فأنكر ما قرفه به ؛ وقال : ومن أين ينكر على الناس الحذر ، وأنت قد استركبت جندك وجميع جيشك في التّعبئة ، لا لسفر ذكرته ، ولا لعدوّ وثب إليك ، فمن هناك حدس القوم على أنك تريدهم ، وقد أجمل الله لك الصّنع في نفارهم ، وقادك إصارهم ، فأعد نظرك يا سيدي ، فسوف تحمد عاقبة رأيي وغبطة نصحي. فنصّح وزيره شيخ من موالي صنهاجته ، فانعطف لذلك بعد لأي ، وشرح الله صدره. ويجري التعريف بشيء من أمور وزيره.
قال ابن عذاري المراكشي في كتابه المسمى ب «البيان المغرب» (١) : أمضى باديس كاتب أبيه ووزيره ابن نغرالة اليهودي (٢) ، وعمالا متصرّفين من أهل ملّته ، فاكتسبوا الجاه في أيامه واستطالوا على المسلمين. قال ابن حيّان : وكان هذا اللعين في ذاته ، على ما زوى الله عنه من هدايته ، من أكمل الرجال علما وحلما وفهما ، وذكاء ، ودماثة ، وركانة ، ودهاء ، ومكرا ، وملكا لنفسه ، وبسطا من خلقه ، ومعرفة
__________________
(١) البيان المغرب (ج ٣ ص ٢٦٤).
(٢) هو إسماعيل بن نغرالة اليهودي كما في البيان المغرب. وله ترجمة في المغرب (ج ٢ ص ١١٤) ، ولابنه يوسف بن إسماعيل ترجمة في المغرب (ج ٢ ص ١١٥).