ذكر بلكّين من اتّهامه بسمّه ، وتولّيه التهمة به عند أبيه ، للكثير من جواريه وخدّامه ، وفتك هذا بقريب له ، تلو له في الخدمة والوجاهة ، يدعى بالقائد ، شعر منه بمزاحمته إياه فتكة شهيرة ؛ واستهدف للناس فشغلت به ألسنتهم ، وملئت غيظا عليه صدورهم ، وذاعت قصيدة الزاهد أبي إسحاق الإلبيري ، في الإغراء بهم ، واتفق أن أغارت على غرناطة بعوث صمادحية تقول إنها باستدعائه ، ليصير الأمر الصّنهاجيّ إلى مجهزها الأمير بمدينة ألمريّة. وباديس في هذه الحال منغمس في بطالته ، عاكف على شرابه.
ونمي هذا الأمر إلى رهطه من صنهاجة ، فراحوا إلى دار اليهودي مع العامّة ، فدخلوا عليه ، فاختفى ، زعموا في بيت فحم ، وسوّد وجهه ، يروم التنكير فقتلوه لمّا عرفوه ، وصلبوه على باب مدينة غرناطة ، وقتل من اليهود في يومه ، مقتلة عظيمة ، ونهبت دورهم ، وذلك سنة تسع وخمسين وأربعمائة (١). وقبره اليوم وقبر أبيه يعرف أصلا من اليهود ينقلونه بتواتر عندهم ، أمام باب إلبيرة ، على غلوة ، يعترض الطريق ، على لحده حجارة كدان جافية الجرم ؛ ومكانه من الترفّه والتّرف والظّرف والأدب معروف ؛ وإنما أتينا ببعض أخباره لكونه ممّن لا يمنع ذكره في أعلام الأدباء والأفراد إلا نحلته.
مكان باديس من الذكاء وتولّعه بالقضايا الآتية :
قال ابن الصّيرفي : حدّثني أبو الفضل جعفر الفتى ، وكان له صدق ، وفي نفسه عزّة وشهامة وكرم ، وأثنى عليه ، وعرّف به ، حسبما يأتي في اسم جعفر المذكور ، قال : خاض باديس مع أصحابه في المجلس العلي ، من دار الشّراب بقصره ، واصطفّت الصّقاليب (٢) والعبيد بالبرطل (٣) المتصل به لتخدم إرادته ، فورد عليه نبأ قام لتعرّفه عن مجلسه ، ثم عاد إلى موضعه وقد تجهّم وجهه ، وخبثت نفسه ، فحذر ندماؤه على أنفسهم ، وتخيّلوا وقوع الشّرّ بهم ، ثم قال : أعلمتم ما حدث؟ قالوا : لا ، والله يطلع على خير ، قال : دخل المرابط (٤) الدّمنة ، فسري عن القوم ، وانطلقت ألسنتهم بالدعاء بنصره ، وفسحة عمره ، ودوام دولته ، ثم وجموا لوجومه ، فلمّا رأى
__________________
(١) في أعمال الأعلام لابن الخطيب (القسم الثاني ص ٢٣٣) : قتلوه وصلبوه سنة ٤٦٩ ه ، وقيل : سنة ٤٦٥ ه.
(٢) الصقاليب : هم الصقالبة ، وهم أولئك الأرقّاء الذين ينتسبون إلى جنسيات أوروبية مختلفة.
راجع : مملكة ألمرية في عهد المعتصم بن صمادح (ص ٦٨).
(٣) البرطل : كلمة إسبانية وهي Portal ، وتعني البوّابة ومدخل البيت والبهو ذا الشّرفات المعقودة على الأعمدة.
(٤) يشير إلى دخول يوسف بن تاشفين المرابطي الأندلس.