أحمد الشهير ذكره بشرق الأندلس ، المعروف بكرامة الناس ، المقصود الحفرة ، المحترم التّربة حتى من العدوّ ، والرائق بغير هذه الملّة. خرج قومه من وطنهم عند تغلّب العدو على الشرق ، فنزلوا ربض البيّازين جوفي (١) المدينة ، وارتاشوا ، وتلثّموا (٢) ، وبنوا المسجد العتيق ، وأقاموا رسم الإرادة ، يرون أنهم تمسكوا من طريق الشيخ أبي أحمد بآثاره ، فلا يغبّون بيته ، ولا يقطعون اجتماعا ، على حالهم المعروفة من تلاوة حسنة ، وإيثار ركعات ، ثم ذكر ثم ترجيع أبيات في طريق التصوّف ، مما ينسب للحسين بن منصور الحلاج (٣) وأمثاله ، يعرفونها منهم مشيخة ، قوّالون ، هم فحول الأجمة وضرائك (٤) تلك القطيعة يهيجون بلابلهم ، فلا ينشبون أن يحمى وطيسهم ، ويخلط مرعيّهم (٥) بالهمل ، فيرقصون رقصا غير مساوق للإيقاع الموزون ، دون العجال الغالبة منهم ، بإفراد كلمات من بعض المقول ، ويكرّ بعضهم على بعض ، وقد خلعوا خشن ثيابهم ، ومرقوعات قباطيهم ودرانيكهم (٦). فيدوم حالهم حتى يتصبّبوا عرقا. وقوّالهم يحرّكون فتورهم ، ويزمرون روحهم ، يخرجون بهم من قول إلى آخر ، ويصلون الشيء بمثله ، فربما أخذت نوبة رقصهم بطرفي الليل التمام ، ولا تزال المشيّعة لهم يدعونهم ، ويحاجّونهم إلى منازلهم ، وربما استدعاهم السلطان إلى قصره محمضا في لطائف نعيمه باخشيشانهم ، مبديا التبرّك بألويتهم. ولهم في الشيخ أبي أحمد والد نحلتهم ، وشحنة قلوبهم ، عصبيّة له وتقليد بإيثاره ، أنفجت (٧) لعقده أيمانهم ، وشرط في صحّة دينهم ، وارتكبوا في النفور عن سماع المزمار القصبي المسمّى بالشّبابة الذي أرخص في حضور الولائم ، مع نفخ برعه العدد الكثير من الجلّة الصلحاء القدوة مرتكبا ، حتى ألحقوه بالكبائر الموبقة ، وتعدّوا اجتنابه جبلة وكراهة طباعيّة ، فتزوى عند ذكره الوجوه. وتقتحم عند الاتّهام به الدّور ، وتسقط فيما
__________________
ـ ناقة ، أي ليس له شيء. لسان العرب (عسب) و (ثغا).
(١) الجوف في اصطلاح المغاربة الجهة المقابلة للقبلة ، أي الشمال. اللمحة البدرية (ص ٢٢ ، حاشية ٣).
(٢) أغلب الظن أنه يريد أن يقول إنهم ساروا على طريقة الملثمين أي المرابطين.
(٣) أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج زاهد مشهور ، توفي سنة ٣٠٩ ه. ترجمته في وفيات الأعيان (ج ٢ ص ١١٨) وفيه ثبت المصادر التي ترجمت له.
(٤) الضرائك : جمع ضريك وهو النسر الذكر. محيط المحيط (ضرك).
(٥) في الأصل : «مريعهم». وهذا مأخوذ من المثل : «اختلط المرعي بالهمل». والمرعيّ : الذي له راع. والهمل من الإبل : السّدى المتروك ليلا ونهارا يرعى بلا راع. محيط المحيط (همل).
(٦) القباطي : جمع قبطية وهي ثياب بيض رقاق من كتّان تنسج بمصر. والدرانيك : جمع درنك وهي الطنفسة. محيط المحيط (قبط) و (درنك).
(٧) أنفجه : أثاره. محيط المحيط (نفج).