شجاعته ونشوته ، يصافح البيوت بصفحته ، ويستقبل القنا بلبّاته ، لا يعرض له شيء إلّا حطّه ، إلى أن مال به سرجه ، فأتيح حمامه لاشتغاله بذلك ، بطعنة من يد المسمّى النّبيه النصراني ، أحد فرسان الموالي العامريين ؛ فسقط لفيه ، وانتظمته رماح الموالي فأبادته ؛ وحامى أخوه حبّوس ، وبنو عمّه ، وغيرهم من أنجاد البرابرة على جثته ، فلم يقدروا على استنقاذها بعد جلاد طويل ، وغلب عليه الموالي فاحتزّوا رأسه ، وعجّلوا به إلى قصر السلطان ، وأسلموا جسده للعامّة ؛ فركبوه بكل عظيمة ، واجتمعوا إليه اجتماع البغاث على كبير الصّقورة ، فجرّوه في الطرق وطافوا به الأسواق ، وقطعوا بعض أعضائه ، وأبدوا شواره وكبده بكل مكروه من أنواع الأذى ، بأعظم ما ركب ميت ، فلمّا سئموا تجراره ، أوقدوا له نارا فحرقوه بها جريا على ذميم عادتهم ، في قبح المثلة ، ولؤم القدرة. وانجلت الحروب في هذا اليوم لمصابه ، عن أمر عظيم ، وبلغ من جميع البرابرة الحزن عليه مناله ، ورأت أن دماء أهل قرطبة جميعا لا تعدله.
من الكتاب «المتين».
حبيب بن محمد بن حبيب
من أهل النّجش (١) ، من وادي المنصورة (٢) أخوه مالك النّجشي ، دباب الحلقات ، ومراد أذناب المقرّبين.
حاله : كان على سجيّة غريبة من الانقباض المشوب بالاسترسال ، والأمانة مع الحاجة ، بادي الزّي واللسان ، يحفظ الغريب من اللغة ، ويحرّك شعرا لا غاية وراءه في الرّكاكة ، وله قيام على الفقه وحفظ القرآن ، ونغمة حسنة عند التّلاوة. قدم الحضرة غير ما مرة وكان الأستاذ ، إمام الجماعة ، وسيبويه الصناعة ، أبو عبد الله بن الفخّار ، المعروف بإلبيري ، أبا مثواه ومحطّ طيّته ، يطلب منه مشاركته بباب السلطان في جراية يرغب في تسميتها ، وحال يروم إصلاحها ، فقصدني مصحبا منه رقعة تتضمن الشّفاعة ، وعرض عليّ قصيدة من شعره يروم إيصالها إلى السلطان ، فراجعت الأستاذ برقعة أثبتها على جهة الإحماض وهي :
«يا سيدي الذي أتشرّف ، وبالانتماء إلى معارفه أتميّز ، وصل إليّ عميد حصن النجش ، وناهض أفراخ ذلك العشّ ، تلوح عليه مخايل أخيه المسمّى بمالك ، ويترجّج به الحكم في الغاية في أمثال تلك المسالك ، أشبه من الغراب بالغراب ، وإنها لمن
__________________
(١) هو حصن النجش ، كما سيرد بعد قليل.
(٢) ذكره ابن سعيد وقال : نهر المنصور ، مشهور بالحسن ، لما عليه من الحصون والضياع. المغرب (ج ٢ ص ٨١ ، ٨٤).