قومه ، وأن أباه ألجأه الخوف بدم ارتكبه في محلّ أصالته من داخل قشتالة إلى السّكنى بحيث ذكر. ووقع عليه سباء (١) في سنّ الطفوليّة ، واستقرّ بسببه بالدار السلطانية ، ومحض إحراز رقّه ، السلطان دايل قومه ، أبو الوليد المارّ ذكره ، فاختصّ به ، ولازمه قبل تصيير الملك إليه ، مؤثرا له مغتبطا بمخايل فضله ، وتماثل استقامته ، ثم صيّر الملك إليه فتدرّج في معارج حظوته ، واختصّ بتربية ولده ، وركن إلى فضل أمانته ، وخلطه في قرب الجوار بنفسه ، واستجلى الأمور المشكلة بصدقه ، وجعل الجوائز السّنيّة لعظماء دولته على يده ، وكان يوجب حقّه ويعرف فضله ، إلى أن هلك ، فتعلّق بكنف ولده ، وحفظ شمله ، ودبّر ملكه ، فكان آخر اللّخف ، وسترا للحرم ، وشجى للعدا ، وعدّة في الشّدة ، وزينا في الرّخاء ، رحمة الله عليه.
حاله وصفته : كان هذا الرجل مليح الشّيبة والهيئة ، معتدل القدّ والسّحنة ، مرهب البدن ، مقبل الصورة ، حسن الخلق ، واسع الصدر ، أصيل الرأي ، رصين العقل ، كثير التجمّل ، عظيم الصبر ، قليل الخوف في الهيعات (٢) ، ثابت القدم في الأزمات ، ميمون النّقيبة (٣) ، عزيز النّفس ، عالي الهمّة ، بادي الحشمة ، آية في العفّة ، مثلا في النزاهة ، ملتزما للسّنّة ، دؤوبا على الجماعة ، جليس القبلة ؛ شديد الإدراك مع السكون ، ثاقب الذّهن مع إظهار الغفلة ؛ مليح الدّعابة مع الوقار والسكينة ، مستظهرا لعيون التاريخ ، ذاكرا للكثير من الفقه والحديث ، كثير الدّالّة (٤) على تصوير الأقاليم وأوضاع البلاد ، عارفا للسياسة ، مكرما للعلماء ، متركا للهوادة ، قليل التصنّع ، نافرا من أهل البدع ؛ متساوي الظاهر والباطن ، مقتصدا في المطعم والملبس.
مكانته من الدين : اتّفق على أنه لم يعاقر مسكرا قطّ ولا زنّ بهناة ، ولا لطخ بريبة ، ولا وصم بخلّة تقدح في منصب ، ولا باشر عقاب جاز ، ولا أظهر شفاء من غائظ ، ولا اكتسب من غير التّجر والفلاحة مالا.
آثاره : أحدث المدرسة بغرناطة ، ولم تكن بها بعد ، وسبّب إليها الفوائد ، ووقف عليها الرّباع المغلّة ، وانفرد بمنقبها (٥) ، فجاءت نسيجة وحدها بهجة وصدرا وظرفا وفخامة ، وجلب الماء الكثير إليها من النهر ، فأبّد سقيه عليها ، وأدار السّور (٦)
__________________
(١) السّباء : الأسر. محيط المحيط (سبى).
(٢) الهيعات : جمع هيعة وهي كل ما أفزعك من صوت أو فاحشة تشاع. محيط المحيط (هيع).
(٣) ميمون النقيبة : مبارك النفس. محيط المحيط (نقب).
(٤) كثير الدالّة : جريء. محيط المحيط (دلل).
(٥) المنقب : الطريق في الجبل ، والمراد أنه انفرد بفضلها. محيط المحيط (نقب).
(٦) ما تزال تقوم حتى اليوم بقية من هذا السور خلف ربض البيازين بغرناطة.