وأنذرت باختلال الحال ، ثم أجازه البحر ، فاستقرّ بتلمسان ، ولم يلبث أن قتل المذكور ، وبادر سلطانه الموتور بفرقته عن سدّته ، فاستدعاه ، فلحق محلّه من هضبة الملك متملّيا ما شاء من عزّ وعناية ، فصرفت إليه المقاليد ، ونيطت به الأمور ، وأسلم إليه الملك ، وأطلقت يده في المال. واستمرّت الأحوال إلى عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة ، والتأث الأمر ، وظهر من سلطانه التنكّر عليه ، فعاجله الحمام فخلّصه الله منه ، وولي أخوه أبو الحجاج من بعده ، فوقع الإجماع على اختياره للوزارة أوائل المحرم من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة ، فرضي الكلّ به ، وفرحت العامّة والخاصّة للخطة ، لارتفاع المنافسات بمكانه ، ورضي الأضداد بتوسّطه ، وطابت النفوس بالأمن من غائلته ، فتولّى الوزارة وسحب أذيال الملك ، وانفرد بالأمر ، واجتهد في تنفيذ الأحكام ، وتقدّم الولاة ، وجواب المخاطبات وقوّاد الجيوش ، إلى ليلة الأحد الثاني والعشرين من رجب عام أربعين وسبعمائة ، فنكبه الأمير المذكور نكبة ثقيلة البرك ، هائلة الفجأة من غير زلّة مأثورة ، ولا سقطة معروفة ، إلّا ما لا يعدم بأبواب الملوك من شرور المنافسات ، ودبيب السّعايات الكاذبة. وقبض عليه بين يدي محراب الجامع من الحمراء إثر صلاة المغرب ، وقد شهر الرّجال سيوفهم فوقه يحفّون به ، ويقودونه إلى بعض دور الحمراء ، وكبس ثقات السلطان منزله ، فاستوعبوا ما اشتمل عليه من نعمة ، وضمّ إلى المستخلص عقاره ، وسوّغ الخبر عظيم غلاته. ثم نقل بعد أيام إلى قصبة ألمرية محمولا على الظّهر ، فشدّ بها اعتقاله ، ورتّب الحرس عليه إلى أوائل شهر ربيع الثاني من عام أحد وأربعين وسبعمائة ، فبدا للسلطان في أمره واضطر إلى إعادته. ووجد فقد نصحه ، وأشفق لما عدم من أمانته ، والانتفاع برأيه ، وعرض عليه بما لنوم الكفّ والإقصار عن ضرّه ، فعفا عنه ، وأعاده إلى محلّه من الكرامة ، وصرف عليه من ماله ، وعرض الوزارة فأباها ، واختار بردّ العافية ، وأنس لذّة التخلّي ، فقدم لذلك من سدّ الثغور ، فكان له اللفظ ، ولهذا الرجل المعنى ، فلم يزل مفزعا للرأي ، محلّى في العظة على الولاية ، كثير الآمل والغاشي ، إلى أن توفي السلطان المذكور غرّة شوّال من عام خمسة وخمسين وسبعمائة ، فشعب الثّأي (١) ، وحفظ البلوى ، وأخذ البيعة لولده سلطاننا الأسعد أبي عبد الله ، وقام خير قيام بأمره ، وجرى على معهود استبرائه ، وقد تحكّمت التجربة ، وعلت السّنّ ، وزادت أنّة الخشية ، وقربت من لقاء
__________________
(١) الثأي : الضعف والركاكة وآثار الجرح. لسان العرب (ثأى).