ببطن الوادي المعروف ب «هدارّه» ، إلى أن لصقوا بجناح السّور الصّاعد ، الراكبة قوسه جرية النهر ، وصعدوا مساوقين جناحه المتّصل بسور القلعة ، وقد نقص كثير من ارتفاعه ، لحدثان إصلاح فيه ، فتسوّروه عن سلّم ، ودافع بعض محاربيهم بعضا في استباق أدراجه ، فدخلوا البلد في الثّلث الأخير من ليلة الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان عام ستين وسبعمائة ، ثم استغلظوا بالمشاعل ، وقتلوا نائب الملك رضوانا النّصري ، سايس الأمر ، وبقيّة المشيخة ، واستخرجوا السلطان الذي هو يزيفه ، فنصبوه للناس ، وتمّ الأمر ، بما دلّ على احتقار الدنيا عند الله ؛ وانخرط هذا الخبّ في طور غريب من التنزّل للسلطان ، والاستخدام لأمّه ، والتهالك في نصحه ، وخلط نفسه فيه ، وتبذّل في خدمته ؛ يتولّى له الأمور ، ويمشي في زيّ الأشراط بين يديه ، ويتأتّى لشهواته ، ويتظاهر بحراسته. ولمّا علم أن الأمر يشقّ تصيّره إليه من غير واسطة ، بغير انقياد الناس إليه ، من غير تدريج كاده (١) ، فألطف الحيلة في مساعدته على اللذّات ، وإغرائه بالخبائث ، وشغله بالعهر ، وقتله بالشّهوات المنحرفة ، وجعل يتبرّأ من دنّيته وينفق بين الناس من سلع اغتيابه ، ويرى الجماهير الإنكار لصنيعه ، ويزيّن لهم الاستعاضة منه بعد ما غلظت شوكته ، وضمّ الرجال إلى نفسه موريا بحفظه ؛ والاستظهار على صونه. وفي الرابع من شعبان عام أحد وستين وسبعماية ، ثار به في محلّ سكناه في جواره ، واستجاش أولياء غدره ؛ وكبس منزله ، مداخلا للوزير المشؤوم ، عاقدا معه صفقة الغدر. وامتنع السلطان بالبرج الأعظم ، فاستنزله وقتله ، كما مرّ في اسم المذكور قبل ، واستولى على الملك ، فلم يختلف عليه اثنان. واشتغل طاغية الروم بحرب ، كان بينه وبين القطالنيّين (٢) ، فتمالأ لمسالمته ، فاغتبط الصنيع وتهنّا المنحة ، وتشطّط على الروم في شروط غير معتادة ، سامحوه بها مكيدة واستدراجا ، واجتاز أمير المسلمين المصاب بغدره إلى الأندلس ، طالبا لحقّه ، ومبادرا إلى ردّ أمره ، فسقط في يده ، ووجّه الجيش إليه بمثواه من بلد رندة ، فانصرف عنها خائبا ، ورجع أدراجه ، يشكّ في النجاة ، وتفرّغ إليه الطاغية ، ففضّ عليه جمّه ؛ وقد أجرت عليه شوكته وقيعة نصر الله فيها الدّين ، وأملى لهذا الوغد ، فلم يقله العثرة بعدها ، ونازل حصونه المهتضمة ، واستولى على كثير منها ، وحام فلم يصحر غلوة ، وأكذب ما موّه به من البسالة ، وظهر للناس بلبس الصوف ، وأظهر التّوبة على سريرة دخلة ، وفسق مبين ، وقلّ ما بيده ، ونفد بيت ماله ، فلم يجد شيئا يرجع إليه ، من بعد ما سبك الآنية والحلية ، وباع العقار لتبذيره ، وسحّه المال سحّا ، في أبواب الأراجيف
__________________
(١) كاده : أخضعه وغلبه.
(٢) هم سكان قطلونية.