إلى المسير في جملته ، كان ممّن وصل إليه الأمير عبد الله بن بلكّين بن باديس ، صاحب غرناطة ، ووصل صحبته الوزير أبو جعفر بن القليعي ، لرغبته في الأجر مع شهرة مكانه ، وعلوّ منصبه ، ولنهوض نظرائه من زعماء الأقطار إلى هذا الغرض. وكان مضرب خيام القليعي قريبا من مضرب حفيد باديس ، ولمنزلته عند الأمير يوسف بن تاشفين ، وله عليها الحفوف وله به استبداد وانفراد كثير وتردّد كثير ، حتى نفى بذلك حفيد باديس ، وأنهم عينه. قال المؤرّخ : وكيفما دارت الحال ، فلم يخل من نصح لله ولأمير المسلمين.
قلت : حفيد باديس كان أدرى بدائه ، قصّر الله خطانا من مدارك الشّرور. فلمّا صدر حفيد باديس إلى غرناطة ، استحضره ونجهه ، وقام من مجلسه مغضبا ، وتعلقت به الخدمة ، وحفّت به الوزعة (١) والحاشية ، وهمّوا بضربه ؛ إلّا أن أمّ عبد الله تطارحت على ابنها في استحيائه ، فأمر بتخليصه ، وسجنه في بعض بيوت القصر ؛ فأقبل فيه على العبادة والدعاء والتّلاوة ؛ وكان جهير الصوت ، حسن التّلاوة ، فأرتج القصر ، وسكنت لاستماعه الأصوات ، وهدأت له الحركات ، واقشعرّت الجلود. وخافت أم عبد الله على ولدها ، عقابا من الله بسببه ، فلاطفته حتى حلّ عقاله ، وأطلقه من سجنه. ولمّا تخلّص أعدّها غنيمة. وكان جزلا ، قويّ القلب ، شديد الجزم ؛ فقال الصّيد بغراب أكيس ؛ فاتخذ الليل جملا ؛ فطلع له الصباح بقلعة يحصب ، وهي لنظر ابن عبّاد (٢) ، وحثّ منها السّير إلى قرطبة ؛ فخاطب منها يوسف بن تاشفين بملء فيه ، بما حرّكه وأطمعه ؛ فكان من حركته إلى الأندلس ، وخلع عبد الله بن بلكّين من غرناطة ، واستيلائه عليها ، ما يرد في اسم عبد الله وفي اسم يوسف بن تاشفين ، إن شاء الله. وبدا لحفيد باديس في أمر أبي جعفر القليعي ، ورأى أنه أضاع الحزم في إطلاقه ، فبحث عنه من الغد ، وتقصّت عنه البلدة ، فلم يقع له خبر ، إلى أن اتّصل به خبر نجاته ، ولحاقه بمأمنه. فرجع باللائمة على أمّه ، ولات حين مندم. ولم يزل أبو جعفر مدّته في دول الملوك ، من لمتونة ، معروف الحقّ ، بعيد الصّيت والذّكر ، صدر الحضرة ، والمخصوص بعلوّ المرتبة إلى حين وفاته (٣).
__________________
(١) الوزعة : جمع الوازع وهو من يدبّر أمور الجيش ، أو هو قامع الشّرّ والبغي. لسان العرب (وزع).
(٢) هو المعتمد بن عباد ، صاحب إشبيلية.
(٣) في الصلة : «وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة».