وحيّ (١) الإجهاز في فصل القضايا ، نافذ المقطع ، كثير الاجتهاد والنّظر ، مشاركا في فنون ، من عربيّة ، وفقه ، وقراءة ، وفرائض ، طيّب النّغمة بالقرآن ، حسن التّلاوة ، عظيم الوقار ، بين طبع ومكسوب ، فائق الأبّهة ، مزريا بمن دونه من الفقهاء ، وعاقدي الشروط ، مسقطا للكنى والتّجلّات ، يعامل الكهول معاملة الأحداث ، ويتهاون بتعاملات ذلك فيجعلها دبر أذنيه ، ويسترسل في إطلاق عنان النّادرة الحارة ، في مجالس حكمه ، فضلا عن غيرها ؛ وجد ذلك من يحمل عليها سببا للغرض منه.
نباهته : ترشّح بذاته ، وباهر أدواته ، إلى قضاء المدن النّبيهة ، والأقطار الشهيرة ، كرندة ، ومالقة ، وغيرهما. ثم ولّي قضاء الجماعة ، في ظلّ جاه ، وضمن حرمة.
غريبة في أمره : حدث أنه كان يقرأ في شبيبته على الأستاذ الصالح أبي عبد الله بن مستقور (٢) بكرم له خارج الحضرة ، على أميال منها في فصل العصير. قال : وجّهني يوما بغلّة من الرّبّ (٣) لأبيعه بالبلد ، فأصابني مطر شديد ، وعدت إليه بحال سيّئة ، بعد ما قضيت له وطره ؛ وكان له أخ أسنّ منه ، فعاتبه في شأني ، وقال له : تأخذ صبيّا ضعيفا يأتيك لفائدة يستفيدها ، وتعرّضه لمثل هذه المشقّة ، في حقّ مصلحتك ، ليس هذا من شيم العلماء ، ولا من شيم الصّالحين. فقال له : دعه ، لا بدّ أن يكون قاضي الجماعة بغرناطة ؛ فكان كذلك ، وصدقت فراسته ، رحمه الله تعالى.
مشيخته : قرأ بالقرية على الأستاذ أبي القاسم بن الأصفر ؛ وبغرناطة على العالم القاضي أبي الحسن محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري ، وعلى الشيخ المفتي أبي بكر محمد بن أبي إبراهيم بن مفرّج الأوسي بن الدبّاغ الإشبيلي ، وعلى الخطيب الزاهد أبي الحسن العدّال ، وعلى الأستاذ النّحوي أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن يوسف بن الصّايغ ؛ بالصاد المهملة ، والغين المعجمة ، وعلى الأستاذ أبي الحسن الأبّدي (٤) ؛ وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الطائي ، عرف بابن مستقور.
ولمّا دالت الدولة ، كان له في مشايعة مخلوعها أمور اقتضتها منه أريحيّة وحسن وفاء ، أوجبت عليه الخمول بعد استقرار دائلها السلطان أبي الوليد ، رحمه الله ؛
__________________
(١) الوحيّ : العجل المسرع. محيط المحيط (وحى).
(٢) هو المقرئ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطائي ، المعروف بمستقور ، حسبما جاء في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٧٥).
(٣) الرّبّ : بقايا كلّ ثمرة بعد اعتصارها. لسان العرب (ربب).
(٤) نسبة إلى أبّدة أو أبّذة ، وهي مدينة صغيرة بالأندلس على مقربة من النهر الكبير ، بينها وبين بياسة سبعة أميال ، وهي بالإسبانيةUbeda. الروح المعطار (ص ٦).