لقد خامرت نفسي مدامة حبّه |
|
فقلبي من سكر المدامة لا يصحو (١) |
وقد هام قلبي في هواه فبرّحت |
|
بأسراره عين لمدمعها سبح |
غفلته ونوكه : كان هذا الرجل من البله في أسباب الدنيا ؛ له في ذلك حكايات دائرة على ألسنة الشقاة من الملازمين له وغيرهم ، لو لا تواترها لم يصدّق أحد بها ، تشبه ما يحكى عن أبي علي الشلوبين. منها أنه اشترى فضلة ملف فبلّها ، فانتقصت كما يجري في ذلك ، فذرعها بعد البلّ فوجدها تنقصت ، فطلب بذلك بائع الملف ، فأخذ يبيّن له سبب ذلك فلم يفهم. ومنها أنه سار إلى بعض بساتين ألمرية مع جماعة من الطلبة واستصحبوا أرزّا ولبنا ، فطلبوا قدرا لطبخه ، فلم يجدوا ، فقال : اطبخوا في هذا القدر ، وأشار إلى قدر بها بقيّة زفت مما يطلى به السّواني (٢) عندهم ، فقالوا له : وكيف يسوغ الطبخ بها ، ولو طبخ بها شيء مما تأكله البهائم لعافته ، فكيف الأرز باللبن؟ فقال لهم : اغسلوا معائدكم ، وحينئذ تدخلون فيها الطعام. فلم يدروا ممّا يعجبون ، هل من طيب نفسه بأكله مما يطبخ في تلك القدر ، أم من قياسه المعدة عليها. ومنها أنهم حاولوا طبخ لحم مرّة أخرى في بعض النّزه فذاق الطعام من الملح بالمغرفة ، فوجده محتاجا للملح ، فجعل فيه ملحا وذاقه على الفور ، قبل أن ينحلّ الملح ويسري في المرقة الأولى ، فزاد ملحا إلى أن جعل فيه قدر ما يرجح اللحم ، فلم يقدروا على أكله. ومنها أنه أدخل يده في مفجر صهريج فصادفت يده ضفدعا كبيرا ، فقال لأصحابه : تعالوا إن هنا حجرا رطبا. ومنها أنه استعار يوما من القائد أبي الحسن بن كماشة ، جوادا ملوكيّا ، قرطاسي اللّون ، من مراكب الأمراء ؛ فقال : وجّه لي تلك الدّابّة ، فتخيّل أنه يريد الرّكوب إلى بعض المواضع ، ثم تفطّن لغفلته ، وقال : أي شيء تصنع به ، قال : أجعله يسني شيئا يسيرا في السّانية ، فقال : تقضى الحاجة ، إن شاء الله بغيره ؛ ووجّه له حمارا برسم السانية ، وهو لا يشعر بشيء من ذلك كله.
قلت : وفي موجودات الله تعالى عبر ، وأغربها عالم الإنسان ، لما جبلوا عليه من الأهواء المختلفة ، والطّباع المشتّتة ، والقصور عن فهم أقرب الأشياء ، مع الإحاطة بالغوامض.
حدّثنا غير واحد ، منهم عمّي أبو القاسم ، وابن الزّبير ؛ إذنا في الجملة ، قالا : حدّثنا أبو الحسن بن سراج عن أبي القاسم بن بشكوال ، أن الفقيه صاحب الوثائق أبا
__________________
(١) في الأصل : «لا يصحّ».
(٢) السواني : جمع السانية وهي كالساقية ، ما يسقى عليه الزرع والحيوان. لسان العرب (سنا).