حاله : كان نسيج وحده ، وفريد دهره ، وغرّة جنسه ، إماما في الحديث ، حافظا ، ناقدا ، ذاكرا تواريخ المحدّثين وأنسابهم وموالدهم ووفاتهم ، وتعديلهم ، وتجريحهم ؛ عجيبة نوع الإنسان في عصره ، وما قبله ، وما بعده ، في معرفة علم النبات ، وتمييز العشب ، وتحليتها ، وإثبات أعيانها ، على اختلاف أطوار منابتها ، بمشرق أو مغرب حسّا ، ومشاهدة ، وتحقيقا ، لا مدافع له في ذلك ، ولا منازع ، حجة لا تردّ ولا تدفع ، إليه يسلّم في ذلك ويرجع. قام على الصّنعتين ؛ لوجود القدر المشترك بينهما ، وهما الحديث والنبات ، إذ موادهما الرّحلة والتّقييد ، وتصحيح الأصول وتحقيق المشكلات اللفظية ، وحفظ الأديان والأبدان ، وغير ذلك. وكان زاهدا في الدنيا ، مؤثرا بما في يديه منها ، موسّعا عليه في معيشته ، كثير الكتب ، جمّاعا لها ، في كل فنّ من فنون العلم ، سمحا لطلبه العلم ، ربما وهب منها لملتمسه الأصل النفيس ، الذي يعزّ وجوده ، احتسابا وإعانة على التعليم ؛ له في ذلك أخبار منبئة عن فضله ، وكرم صنعه ، وكان كثير الشّغف بالعلم ، والدّؤوب على تقييده ومداومته ، سهر الليل من أجله ، مع استغراق أوقاته ، وحاجات الناس إليه ، إذ كان حسن العلاج في طبّه المورود ، الموضوع ، لثقته ودينه.
قال ابن عبد الملك (١) : إمام المغرب قاطبة فيما كان سبيله ، جال الأندلس ، ومغرب العدوة ، ورحل إلى المشرق ، فاستوعب المشهور من إفريقيّة ، ومصره ، وشامه ، وعراقه ، وحجازه ، وعاين الكثير ممّا ليس بالمغرب ؛ وعاوض كثيرا فيه ، كلّ ما أمكنه ، بمن يشهد له بالفضل في معرفته ، ولم يزل باحثا على حقائقه ، كاشفا عن غوامضه ، حتى وقف منه على ما لم يقف عليه غيره ، ممّن تقدّم في الملّة الإسلامية ، فصار واحد عصره فردا ، لا يجاريه فيه أحد بإجماع من أهل ذلك الشأن.
مذاهبه : كان (٢) سنّيّا ظاهريّ المذهب ، منحيا على أهل الرأي ، شديد التعصّب لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ، على دين متين ، وصلاح تامّ ، وورع شديد ؛ انتشرت عنه تصانيف أبي محمد بن حزم ، واستنسخها (٣) ، وأظهرها ، واعتنى بها ، وأنفق عليها أموالا جمّة ، حتى استوعبها جملة ، حتى لم يشذّ له منها إلّا ما لا خطر ، متقدما ومقتدرا على ذلك بجدّته ويساره ، بعد أن تفقّه طويلا على أبي الحسن (٤) محمد بن أحمد بن زرقون في مذهب مالك.
__________________
(١) الذيل والتكملة (السفر الأول ص ٥١٢ ـ ٥١٣) والنقل عن ابن عبد الملك ليس حرفيّا.
(٢) النص في الذيل والتكملة (السفر الأول ص ٥١٢).
(٣) في الذيل والتكملة : «واستحسنها».
(٤) في الذيل والتكملة : «أبي الحسين».