وأخذ في أمره مع أبيه وإخوته ، وفتنة ابن مردنيش (١) مضطربة ؛ فقال له أخوه محمد وأبوه : إن حركنا حركة كنا سببا لهلاك هذا البيت ، ما بقيت دولة هؤلاء القوم ، والصبر عاقبته حميدة ، وقد كنّا ننهاك عن الممارجة (٢) ، فلم تركب إلّا هواك ؛ وأخذ مع أخيه عبد الرحمن ، واتفقا على أن يثورا في القلعة باسم ابن مردنيش ، وساعدهما قريبهما على ذلك حاتم بن حاتم بن سعيد ، وخاطبوا ابن مردنيش ، وصدر لهم جوابه بالمبادرة ، ووصلت منه خيل ضاربة ، وتهيّأ لدخول القلعة ؛ وتهيّأ الحصول في القلعة ، وخافوا من ظهور الأمر ؛ فبادر حاتم وعبد الرحمن إلى القلعة ، وتمّ لهما المراد ؛ وأخّر الجبن أبا جعفر ففاتاه ، وتوقّع الطلب في الطريق إلى القلعة ، فصار متخفّيا إلى مالقة ، ليركب منها البحر إلى جهة ابن مردنيش ؛ ووضع السيّد عليه العيون في كل جهة ، فقبض عليه بمالقة ، وطولع بأمره فأمر بقتله صبرا ، رحمه الله.
جزالته وصبره : قال أبو الحسن بن سعيد : حدّثني الحسين بن دويرة ، قال : كنت بمالقة لمّا قبض على أبي جعفر ، وتوصّلت إلى الاجتماع به ، ريثما استؤذن السيد في أمره حين حبس ، فدمعت عيني لما رأيته مكبولا ؛ قال : أعليّ تبكي بعد ما بلغت من الدنيا أطايب لذّاتها؟ فأكلت صدور الدجاج ، وشربت في الزّجاج ، وركبت كل هملاج (٣) ، ونمت في الديباج ، وتمتعت بالسّراري والأزواج ، واستعملت من الشمع السّراج الوهّاج ، وهأنا في يد الحجّاج ، منتظرا محنة الحلّاج ؛ قادم على غافر ، لا يحوج إلى اعتذار ولا احتجاج. فقلت : ألا أبكي على من ينطق بمثل هذا؟ ثم تفقّد ، فقمت عنه ، فما رأيته إلّا مصلوبا ، رحمه الله.
شعره (٤) : [الطويل]
أتاني كتاب منك يحسده الدّهر |
|
أما حبره ليل ، أما طرسه فجر؟ |
به جمع الله الأمانيّ لناظري |
|
وسمعي وفكري فهو سحر ولا سحر |
ولا غرو أن أبدى العجائب ربّه |
|
وفي ثوبه برّ ، وفي كفّه بحر |
ولا عجب إن أينع الزّهر طيّه |
|
فما زال صوب القطر يبدو به الزّهر |
__________________
(١) هو أبو عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش ، أمير شرق الأندلس (مرسية وبلنسية). توفي بمرسية سنة ٥٦٧ ه. أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٥٩) ، والمنّ بالإمامة (ص ١٠٩ ، ٢١٠) ، والحلّة السيراء (ج ٢ ص ٢٣١ ـ ٢٣٣).
(٢) الممارجة : الفساد والفتنة ؛ يقال : مرج السلطان رعيّته : خلّاها والفساد. محيط المحيط (مرج).
(٣) الهملاج هو الدابة الأصيلة الحسنة السير. لسان العرب (هملج).
(٤) البيت الأول فقط في المغرب (ج ٢ ص ١٦٥).