ثم أعيد إلى القضاء بالحضرة ، فوليها ، واستمرت حاله وولايته على متقدّم سمته من الفضل والنّزاهة والمراجعة فيما يأنف فيه من الخروج عن الجادّة ، إلى أن هلك السلطان (١) مستقضيه ، مأموما به ، مقتديا بسجدته ، يوم عيد الفطر ، خمسة وخمسين وسبعمائة. وولي الأمر ولده (٢) الأسعد ، فجدّد ولايته ، وأكّد تجلّته ، ورفع رتبته ، واستدعى مجالسته.
مشيخته : قرأ (٣) ببلده سبتة على أبيه الشريف الطاهر ، نسيج وحده في القيام ، وعلى أبي عبد الله بن هاني وبه جلّ انتفاعه ، وعليه جلّ استفادته. وأخذ عن الإمام شيخ المشيخة أبي إسحاق الغافقي. وروى عن الخطيب أبي عبد الله الغماريّ ، والخطيب المحدّث أبي عبد الله بن رشيد ، والقاضي أبي عبد الله القرطبي ، والفقيه الصالح أبي عبد الله بن حريث. وأخذ عن الأستاذ النظار أبي القاسم بن الشاط وغيره.
محنته : دارت عليه يوم مهلك السلطان المذكور رحى الوقيعة ، فعركته بالثّقال ، وتخلّص من شرارها هولا ، لتطارح الأمير المتوثّب أمام ألمريّة عليه ، خاتما في السّجدة ، ودرس الحماة إياه عند الدّجلة ، من غير التفات لمحل الوطأة ، ولا افتقاد لمحل صلاة تلك الأمّة ، فغشيه من الأرجل ، رجل الرّبى كثيرة ، والتفّ عليه مرسل طيلسانه ، سادّا مجرى النّفس إلى قلبه ، فعالج الحمام وقتا ، إلى أن نفّس الله عنه ، فاستقلّ من الرّدى ، وانتبذ من مطّرح ذلك الوغى ، وبودر بالفصاد ، وقد أشفى ، فكانت عثرة لقيت لما ومتاعا ، فسمح له المدى آخر من يوثق به ، من محل البثّ ، ومودعات السّرّ من حظيّات الملك ، أن السلطان عرض عليه قبل وفاته في عالم الحلم ، كونه في محراب مسجده ، مع قاضيه المترجم به ، وقد أقدم عليه كلب ، أصابه بثوبه ، ولطّخ ثوبه بدمه ، فأهمّته رؤياه ، وطرقت به الظنون مطارقها ، وهمّ بعزل القاضي ، انقيادا لبواعث الفكر ، وسدّا لأبواب التوقيعات ، وقد تأذن الله بإرجاء العزم ، وتصديق الحلم ، وإمضاء الحكم ، جلّ وجهه ، وعزّت قدرته ، فكان من الأمر ما تقرر في محله.
__________________
(١) هو السلطان أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج ، سابع سلاطين بني نصر بغرناطة. راجع اللمحة البدرية (ص ١٠٢).
(٢) هو الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج ، ثامن سلاطين بني نصر بغرناطة ، والمتوفّى سنة ٧٩٣ ه. ترجمته في اللمحة البدرية (ص ١١٣ ، ١٢٩) وتاريخ قضاة الأندلس (ص ٢١٣) والدرر الكامنة (ج ٤ ص ٢٩١) وأزهار الرياض (ج ١ ص ٣٧ ، ٥٨ ، ١٩٤).
(٣) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ٢١٧).