جملة من دائرة السّوء ممن ثقلت وطأته ، فغرّبوا إلى تونس ، أوائل شهر رمضان من عام ثلاثة وستين. ثم لما قفل من الحجّ ، واستقرّ ببجاية يريد المغرب ، حنّ إلى جوار النّصرانية ، التي ريم سلفه العبوديّة إليها ، فعبر البحر إلى برجلونة (١) ، ينفض عناء طريق الحجّ على الصّلبان ، ويقفو على آثار تقبيل الحجر الأسود ، تقبيل أيدي الكفّار. ثم قصد باب المغرب رسولا عن طاغية برجلونه في سبيل فساد على المسلمين ، فلم ينجح فيه قصده ، فتقاعد لمّا خسر فيه ضمانه ، وصرف وكره إلى الاتصال بصاحب قشتالة ، وعنّ على كتب إليه بخطّه ، يتنفّق عنده ويغريه بالمسلمين ، فتقبّض عليه ، وسجن بفاس مع أرباب الجرائم. وعلى ذلك استقرّ حاله إلى اليوم ، وأبرأ إلى الله من التّجاوز في أمره. ومن يضلل الله فما له من هاد.
ولمّا وفدت على السلطان بولده ، وقرّت عيني بلقائه ، تحت سداده وعزّه ، وفوق أريكة ملكه ، وأدّيت ما يجب من حقّه ؛ عرضت عليه غرضي ، ونفضت له خزانة سرّي ، وكاشفته ضميري بما عقدت مع الله عهدي ، وصرفت إلى التّشريق (٢) وجهي ، فعلقت بي لركومه علوق الكرامة ، ولاطفني بما عاملت البرّ بين الدّعر والضّنانة ، ويضرب الآماد ، وخرج لي عن الضرورة ، وأراني أن مؤازرته أبرّ القرب ، وراكنني إلى عهد بخطّه ، فسح فيه لعامين أمد الثواء ، واقتدى بشعيب ، صلوات الله عليه ، في طلب الزّيادة على تلك النّسبة ، وأشهد من حضر من العلية ، ثم رمى إلي بعد ذلك بمقاليد رأيه ، وحكّم عقلي في اختيار عقله ، وغطّى من جفائي بحلمه ، وحثا في وجوه شهواته تراب زجري ، ووقف القبول على وعظي ، وصرف هواه في التحول ثانيا وقصدي ، واعترف بقبول نصحي ، فاستعنت بالله ، وعاملت وجهه فيه. وصادقني مقارضة الحقّ بالجهاد ، ورمى إليّ بدنياه ، وحكّمني فيما ملكته يداه ، وغلّبني على أمره لهذا العهد ، والله غالب على أمره. فأكمل المقام ببابه إلى هذا التاريخ مدّة أجرى الله فيها ، من يمن النّقيبة ، واطّراد السّداد ، وطرد الهوى ، ورفض الزّور ، واستشعار الجدّ ، ونصح الدّين ، وسدّ الثغور ، وصون الجباية ، وإنصاف المرتزقة ، ومحاولة العدوّ ، وقرع الأسماع بلسان الصّدق ، وإيقاظ العيون من نوم الغفلة ، وقدح زناد الرّجولة ، ما هو معلوم ، يعضّد دعواه ، ولله المنّة ، سجية السّذاجة ، ورفع التّسمّت ، وتكوّر المنسأة ، وتفويت العقار في سبيل القربة ، والزّهد في الزّبرج (٣) ، وبثّ حبال الآمال ، والتّعزيز بالله عن الغنيمة ، وجعل الثوب غطاء الليل ، ومقعد المطالعة فراش
__________________
(١) هي برشلونة.
(٢) يريد أنه قصد مكة لقضاء فريضة الحجّ.
(٣) الزّبرج : الزينة من وشي أو جوهر ونحو ذلك ، والذهب. محيط المحيط (زبرج).