ولم يكن له صوت رخيم ، يساوق (١) انطباعه في التّلحين ، يخبر (٢) ذلك بالأوتار. وحاول من ذلك بيده مع أصحابه ، ما لاذ به الظرفاء منهم. واستعمل بدار الأشراف بألمرية ، فأحكم تلك الطريقة في أقرب زمان ، وجاء زمامه يروق من ذلك العمل شأنه (٣). ثم نهضت به همّته إلى أرفع من ذلك ، فسار إلى غرناطة ، وقرأ (٤) بها العربية وغيرها ، وانخرط في سلك نبهاء الطلبة لأدنى مدة. ثم رحل إلى بلاد المشرق في حدود العشرين وسبعمائة ، فلم يتجاوز القاهرة لموافقة هوائها (٥) علّة كان يشكوها ، وأخذ في إقراء العربية بها ، وعرف بها إلى أن صار يدعى بأبي عبد الله النحوي. قال شيخنا المذكور : ورأى في صغره فأرة أنثى ، فقال : هذه قرينة ، فلقّب بذلك ، وصار هذا اللقب أغلب عليه (٦) من اسمه ومعرفته.
وجرى ذكره في التاج بما نصه (٧) : لجّ معرفة لا يغيض (٨) ، وصاحب فنون يأخذ فيها ويفيض. نشأ ببلده مشمّرا عن ساعد اجتهاده ، وشارك (٩) في قنن (١٠) العلم ووهاده ، حتى أينع روضه ، وفهق (١١) حوضه. ثم أخذ في إراحة (١٢) ذاته ، وشام بارقة (١٣) لذّاته ، ثم سار في البطالة سير الجموح ، وواصل الغبوق بالصّبوح ، حتى قضى وطره ، وسيم بطره ، وركب الفلك ، وخاض اللّجج الحلك ، واستقرّ بمصر على النعمة العريضة ، على شكّ في قضائه (١٤) الحجّة العريضة ، وهو اليوم (١٥) بمدرستها الصالحية ، نبيه المكانة ، معدود في أهل العلم والديانة.
مشيخته : قرأ بألمرية على المكتّب أبي عبد الله الميرقي ، وأخذ عن شيخ الجماعة أبي الحسن بن أبي العيش ، وقرأ بالحضرة على الخطيب أبي الحسن (١٦) القيجاطي وغيره. وأخذ بالقاهرة عن الأستاذ أبي حيّان ، وانتفع به وبجاهه.
__________________
(١) يساوق : يجاري ويوازي. لسان العرب (سوق).
(٢) في النفح : «فجبر».
(٣) في النفح : «من شأنه».
(٤) في النفح : «فقرأ».
(٥) في الأصل : «هواها» والتصويب من النفح.
(٦) كلمة «عليه» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من النفح.
(٧) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٥٨ ـ ٣٥٩).
(٨) لا يغيض : لا ينضب. لسان العرب (غيض).
(٩) في النفح : «وسائرا».
(١٠) القنن : جمع قنّة وهي القمّة. لسان العرب (قنن).
(١١) فهق : امتلأ. لسان العرب (فهق).
(١٢) في النفح : «راحة».
(١٣) في النفح : «بارق».
(١٤) في النفح : «في قضاء حجة الفريضة».
(١٥) كلمة «اليوم» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من النفح.
(١٦) في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٥٩): «على الخطيب أبي علي القيجاطي وطبقته».