وتغشاه سويعة وتنصرف ، ما أراه إلّا بطول ذلك المقام ، وتوالي الأهوال العظام ، أصابه مرض في فصل من فصول العام ، فعادته كما يعاد المريض ، وبكته الأيام الغرّ والليالي البيض ، وقلن : كلأك الله وكفاك ، وحاطك وشفاك ، وقل : كيف نجدك لا فضّ فاك ، هذا على الظّن لا على التحقيق ، ومجاز لا يحكم التّصديق. وليبعد مثل هذا المقدار ، أن يقدح فيه طول الغيب وتواتر الأسفار. أليس هو قد ألف مجالي الرّياح ، وصحب برد الصّباح ، وشاهد الأهوية مع الغدو والرّواح ، وطواها بتجربته طيّ الوشاح؟ ما ذاك إلّا أنّه رأى الشمس في بعض الأيام ماشية ، والحسن يأخذ منها وسطا وحاشية ، ودلائل شبابها ظاهرة فاشية ، فوقع منها في نفسه ما وقع ، وثبت على قلبه من النّظر ما زرع ، ووقع في شركها وحقّ له أن يقع. فرثت هي لحاله وأشفقت ، ونهجت بوصالها وتأنّقت ، وقطعت من معدن نيلها وأنفقت ، ورأت أنها له شاكلة يبلغ أملها ، وتبلغ مأمله ، ولذلك ما مدّت لذيذ السّماح ، فتعرّضت بالعشيّ وارتصدها في الصباح ، مع ما أيقنّا به من الانقطاع ، ويمسّنا من الاجتماع ، كما نفد القدر ، وصدر الخبر ، وقال : تعلن لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ، فوجد لذلك وجدا شديدا ، وأذاقه مع الساعات شوقا جديدا ، وأصبح بها دنفا ، وأمسى عميدا ، حتى سلب ذلك بهاه ، وأذهب سناه ، وردّه النحول كما شاه ، ولقي منها مثل ما لقي غيلان من ميّته ، وجميل من بثينته ، وحنّ إليها حنين عروة إلى عفراء ، وموعدهما يوم وهب ناقته الصّفراء. على رسلك أني وهمت ، وحسبت ذلك حقّا وتوهّمت ، والآن وقد فطنت ، وأصبت الفصّ فيما ظننت ، إنه لقي رمضان في إقباله ، وضمّه نقصان هلاله ، وصامه فجأة ولم يك في باله ، فأثّر ذلك في وجهه الطّلق ، وأضعفه كما فعل بسائر الخلق ، وها هو قد أقبل من سفره البعيد ، فقل هو هلال الفطر أو قل هو هلال العيد ، فلقه صباح مشى الناس فيه مشي الحباب ، ولبسوا أفضل الثياب ، وبرزوا إلى مصلّاهم من كل باب ، فارتفعت همّة الإسلام ، وشرفت أمة محمد عليه السلام ، وخطب بالناس ودعا للإمام ، عندما طلعت الشمس بوجه كدور المرآة ، ولون كصفا المهراة ، وخرج لا ينسيها ريم الفلاة. وقضوا السّنّة ، وبذلوا الجهد في ذلك والمنّة ، وسألوا من الله أن يدخلهم الجنّة ، ثم خطبوا حمدا لله وشكرا ، وذكروه كذكرهم آباءهم أو أشدّ ذكرا ، ثم انصرفوا راشدين ، وافترقوا حامدين ، وشبك الشيخ بيديه ، ونظر الشّاب في كفّيه ، ورجعوا على غير الطريق الذي أتوا عليه ، فلقد استشفى من الرّؤية ذو عينين ، وتذكّر العاشق موقف البين ، وشقّ المتنزّه بين الصّفين ، فنقل عينيه من الوشي إلى الدّيباج ، ووجوه كضوء السّراج ، وعيون أقتل من سيف الحجّاج ، ونظرات لا يدفع داؤها بالعلاج ، وقد زيّنت العيون بالتكحيل ، والشعور بالتّرجيل ، وكرّر السّواك على مواضع التّقبيل ، وطوّقت الأعناق بالعقود ، وضرب الفكر في صفحات الخدود ، ومدّ بالغالية