وجردنا الألقاب بعد خرابها ، وقبضنا الجباية محمّلة كتد العادة ، مقودة بزمام الرّفق ، ممسوحا عطفها بكفّ الطواعية ، فبلّلنا صدأ الجيش الممطول بالأماني ، المعلّل بالكذب ، المستخدم في الذبّ عن مجاثم الفحشاء ، ومراقد العهر ، ودارينا الأعداء ، وحسمنا الداء ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، إلّا أن تلك الشّر ذمة الخبيثة أبقت جراثيم نفاق ، ركبها انحجار الغدر ، وبذر بها حصيد الشّرّ ، وأخلطوا الحقائب اللّعنة ممن ساء ظنّه ، وخبث فكره ، وظنّ أن العقاب لا يفلته ، والحقّ لا يذره ، والسياسة لا تحفزه ، فدبّت عقاربهم ، وتدارت طوافاتهم ، وتأبّت فسادهم ، فدبّروا أمرا تبره الله تتبيرا ، وأوسعه خزيا وبيلا ، وجفلوا يرتادون من أذيال القرابة ، من استخلصه الشيطان وأصحبه الخذلان ، من لا يصلح لشيء من الوظائف ، ولا يستقلّ ببعض الكلف ، فحركوا منهم زاهق زمانه ، من شرّ الدّواب الذين لا يسمعون ، فأجّرهم رسنه ، وتوقف وقفة العين بين الورد والصّدر ، بخلال ما أطلعنا الله طلع نيّته ، فعاجلناه بالقبض ، واستودعناه مصفدا ببعض الأطباق البعيدة ، والأجباب العميقة ، فخرج أمرهم ، وخافوا أن نحترش السعايات ، صباب مكرهم ، وتتبع نفاقهم ، فأقدموا إقدام العير على الأسد ، استعجالا للحين ، ورجعا لحكم الخيار ، وإقداما على التي هي أشدّ ، تولّى كبرها ، وكشف وجهه في معصيتها الخبيث البركي (١) حلف التهور والخرق ، المموّه بالبسالة وهو الكذوب النّكوث الفلول ، تحملنا هفوته ، وتغمّدنا بالعفو قديما وحديثا زلّته ، وأعرضنا فيه عن النّصيحة ، وأبقينا له حكم الولاية ، وأنسنا من نفرته ، وتعاففنا عن غرّته ، وسوّغنا الجرائم التي سبقت ، والجرائر التي سلفت ، من إفساد العهد وأسر المسلمين ، والافتيات على الشرع ، والصّدوع بدعوى الجاهلية ، فلم يفده إلّا بطرا ، ولم يزده إلّا مكرا ، والخير في غير أهله يستحيل شرّا ، والنفع ينقلب ضرّا. والتفّت عليه طائفة من الخلائق ، بنو غرّون قرعاء الجبل والمشأمة ، وأذناب بيت الإدبار ، ونفاية الشرّار ، عرك جرأتهم مكان صهرهم البائس ، ابن بطرون ، الضعيف المنّة السقيط الهمّة ، الخامل التفصيل والجملة ، وغيرهم ممن يأذن الله بضلال كيدهم وتخييب سعيهم ، فاقتحموا البلد صبيحة يهتفون بالناس أن قد طرق حمامهم ، وأن العدو قد دهمهم ، ملتفتين يرون أنهم في أذيالهم ، وأنّ رماحهم تنهشهم وتنوشهم ، وسرعانهم ترهقهم ، كأنهم سقطوا من السماء ، أو ثاروا من بين الحصباء ، ثم جالوا في أزقّة البلد يقذفون في الصّفاح نار الحباحب (٢) ركضا فوق الصّخر المرصوف ،
__________________
(١) الخبيث البركي : هو أحد وزراء سلطان غرناطة ، الغني بالله.
(٢) الحباحب : ذباب يطير بالليل له شعاع في ذنبه كالسراج ، وبنار الحباحب يضرب المثل في الضعف. محيط المحيط (حبب).