ولا استعداد ، فأخذ أخوه الذي هزمه بمخنّقه ، وأدار على الحصن البناء ، وفرّ جيش المحصور ، فاجتمع فلّه بأحواز أبدة ، وراسلوا المسلمين في مظاهرتهم على استنقاذهم ، فتوجهت الفتيا بوجوب ذلك. ووقع الاستنفار والاحتشاد حرصا على تخليصه ، ليسبّب بقاؤه بقاء الفتنة تستأصل الكفر ، وتشغل بعض العدو ببعضه.
وفي أثناء هذه المحاولة تباطن الحاين المحصور بمن معه ، وبعد عليه الخلاص من ورطته ، ومساهمة المسلمين إياه في محنته ؛ وانقطعت عنه الأنباء بفرج من كربته ، فداخل بعض أمراء أخيه وظهرائه ، ممن يباشر حصاره ، وكان قومسا شهيرا من المدد الذي ظاهره ، من أهل إفرنسية ، ووعده بكل ما يطمع من مال ومهد ، وتوفية عهد ، فأظهر له القبول ، وأضمر الخديعة. ولما نزل إليه ، سجنه ومن لحق به من الأدلّاء وأولي الحرّة بالأرض وأمسكه ، وقد طيّر الخبر إلى أخيه ، فأقبل في شرذمة من خواصّه وخدّامه ، فهجم عليه وقتله ، وأوسع العفو من كان محصورا معه ، وطير إلى البلاد برأسه ، وأوغر التّبن في جثّته ، ولبس ثياب الحزن من أجله ، وإن كان معترفا بالصّواب في قتله ، وخاطب البلاد التي كانت على مثل الجمر من طاعة الجاهر بمظاهرة المسلمين ، وما جرّ ذلك من افتتاح بلادهم ، وتخريب كنائسهم ، والإتيان على نعمهم ، فأجابته ضربة ، واتفقت على طاعته ، فلم يختلف عليه منها اثنان ، إلّا ما كان من مدينة قرمونة. واجتمعت كلمة النصارى ، ووقع ارتفاع شتاتهم ، وصرفوا وجوههم إلى المسلمين ، وشاع استدعاؤهم جميع من بأرض الشرق من العدوّ الثقيل ببرجلونة (١) ، وعدوّ الأشبونة ، والعدو الثّقيل الوطأة بإفرانسيّة. وقد كان الله ، جلّ جلاله ، ألهم أهل البصائر النظر في العواقب ، والفكر فيما بعد اليوم أعمل. ووقع لي إذن السلطان ، المخلي بيني وبين النصائح ، في مخاطبة سلطان النصارى المنكوب لهذا العهد ، فأشرت عليه بالاحتراز من قومه ، والتّفطّن لمكايد من يحطب في حبل أخيه ، وأريته اتخاذ معقل يحرز ولده وذخيرته ، ويكون له به الخيار على دهره ، واستظهرت له على ذلك بالحكايات المتداولة ، والتواريخ المعروفة ، لتتّصل الفتنة بأرضهم ، فقبل الإشارة وشكر النصيحة ، واختار لذلك مدينة قرمونة المختصّة بالجوار المكتّب ، من دار ملكهم إشبيلية ، فشيّد هضابها ، وحصّن أسوارها ، وملأها بالمخازن طعاما وعدّة ، واستكثر من الآلات ، واستظهر عليها بالثّقات ، ونقل إليها المال والذخيرة ، وسجن بها رهان أكابر إشبيلية ، وأسرى المسلمين ، وبالغ في ذلك ، فيما لا غاية وراءه ولا مطمع ، ولا ينصرف إلى مصرعه الذي دعاه القدر إليه ، حتى تركها عدّة خلفه ، وأودع
__________________
(١) هي مدينة برشلونة ، عاصمة مملكة أراغون في أيام ابن الخطيب.