والتودّد إليّ المرّة بعد المرّة ، واختصصت بفوت المدّة بالسلطان ، فكنت المنفرد بسرّه دونه ، ومفضي همّه ، وشفاء نفسه ، فيما ينكره من فتنة تقع في سيرته ، أو تصيّر توجيه السّذاجة في معاملاته ، وصلاح ما يتغيّر عليه من قلبه ، إلى أن لحق بربّه.
شيخ الغزاة ورئيس الجند الغربي لأول أمره :
أقر على الغزاة شيخهم على عهد أبيه ، أبا زكريا يحيى بن عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق ، مطمح الطّواف (١) ، وموفى الاختيار ، ولباب القوم ، وبقيّة السلف ، جزما ودهاء ، وتجربة وحنكة وجدّا وإدراكا ، ناهيك من رجل فذّ المنازع ، غريبها ، مستحقّ التقديم ، شجاعة وأصالة ، ورأيا ومباحثة ، نسّابة قبيله ، وأضحى قسّهم ، وكسرى ساستهم ، إلى لطف السّجية ، وحسن التأنّي ، لغرض السلطان ، وطرق التّنزل للحاجات ، ورقّة غزل الشّفاعات ، وإمتاع المجلس ، وثقوب الذّهن والفهم ، وحسن الهيئة. وزاده خصوصيّة ملازمته (٢) مجلس الرّقاع (٣) المعروضة ، والرسّل الواردة. وسيأتي ذكره في موضعه بحول الله تعالى.
كاتب سرّه : قمت لأول الأمر بين يديه بالوظيفة التي أسندها إليّ أبوه المولى المقدّس ، رحمه الله ، من الوقوف على رأسه ، والإمساك في التهاني والمبايعة بيده ، والكتابة والإنشاء والعرض والجواب ، والخلعة والمجالسة ، جامعا بين خدمة القلم ، ولقب الوزارة ، معزّز الخطط برسم القيادة ، مخصوصا بالنيابة عنه في الغيبة ، على كل ما اشتمل عليه سور القلعة والحضرة ، مطلق أمور الإيالة ، محكما في أشتاته تحكيم الأمانة ، مطلق الراية ، ظاهر الجاه والنعمة. ثم تضاعف العزّ ، وتأكد الرّعي ، وتمحّض القرب ، فنقلني من جلسة المواجهة ، إلى صفّ الوزارة ؛ وعاملني بما لا مزيد عليه من العناية ، وأحلّني المحل الذي لا فوقه في الخصوصيّة ، كافأ الله فضله ، وشكر رعيه ، وأعلى محلّه عنده.
وأصدر لي هذا الظّهير لثاني يوم ولايته : هذا ظهير كريم ، صفي شربه. وسفّرني في الرسالة عنه ، إلى السلطان ، الخليفة الإمام ، ملك المغرب ، وما إليه من البلاد الإفريقية ، أبي عنان ، حسبما يأتي ذكره. ثم أعفاني في هذه المدة الأولى ، عن كثير من الخدمة ، ونوّه بي عن مباشرة العرض بين يديه بالجملة ، فاخترت للكلّ والبدلة ، وما صان عنه في سبيل التجلّة ، وإن كان منتهى أطوار الرّفعة ، الفقيه أبا محمد بن
__________________
(١) في اللمحة البدرية (ص ١١٦): «الطرف ومرمى الاختيار».
(٢) في اللمحة البدرية (ص ١١٧): «بملازمة».
(٣) في اللمحة البدرية (ص ١١٧): «مجلس العرض وملتقى الرسل الواردة وإجالة قداح المشورة».