وحده في أصالة عريقة ، وسجيّة على السلامة مفطورة ، فما شئت من صدر سليم ، وعقد وثيق ، وغور قريب ، ونصح مبذول ، وتصنّع مرفوض ، ونفس ساذجة ، وباطن مساو للظاهر ، ودمعة سريعة ، وهزل يثمر تجلّة ، وانبساط يفيد حسن نيّة ، إلى حسن العهد ، وفضل المشاركة ، ورقّة الحاشية ، وصلابة العود ، وصدق العزيمة ، وقوة الحامية ، وبلاغة الموعظة ، وجلّة الوقت ، وفائدة العصر ، تفننا وإمتاعا ، فارس المنابر غير الهيّابة ، ولا الجزوع ، طيّب النّغمة بالقرآن ، مجهشا في مجال الرّقة ، كثير الشفقة لصالح العامة ، متأسفا لضياع الأوقات ، مدمعا على الفيئة ، مجمّا ، محوّلا في رئاسة الدين والدنيا. هذا ما يسامح فيه الإيجاز ، ويتجافى عنه الاختصار ، ويكفي فيه الإلماع والإشارة ، أبقى الله شيخنا أبا البركات.
مشيخته وولايته : تقدم قاضيا بقنالش (١) ، في جمادى الثانية عام خمسة عشر وسبع مائة ثم ولّي مربلّة ، وإستبونة (٢) ثم كانت رحلته إلى بجاية. ثم عاد فقعد بمجلس الإقراء من مالقة للكلام على صحيح مسلم ، متّفقا على اضطلاعه بذلك. ثم رحل إلى فاس. ثم آب إلى الأندلس ، واستقرّ ببلده ألمرية ، فقعد بمسجدها الجامع للإقراء ، ثم قدّم قاضيا ببرجة ودلّاية ، والبينول (٣) وفنيانة (٤) ، ثم نقل عنها إلى بيرة ، ثم غربي ألمرية. ثم قدّم قاضيا بمالقة ، ثم قدّم بغربها مضافا إلى الخطابة ، ثم أعيد إلى قضاء ألمرية ، بعد وفاة القاضي أبي محمد بن الصائغ. ومن كتاب «طرفة العصر» من تأليفنا في خبر ولايته ما نصه :
فتقلّد الحكم في الثالث والعشرين لشعبان من عام سبعة (٥) وأربعين وسبعمائة ، ثالث يوم وصوله مستدعى ، وانتابه الطّلبة ووجوه الحضرة والدولة ، مهنئين بمثواه من دار الصيانة ، ومحل التّجلّة ، إحدى دور الملوك بالحمراء ، فطفقوا يغشونه بها زرافات ووحدانا ، في إتاحة الخير ، وإلهام السّداد ، وتسويغ الموهبة. وكان وصوله ، والأفق قد اغبرّ ، والأرض قد اقشعرّت لانصرام حظّ من أيام الشتاء الموافق لشهر ولايته ، لم
__________________
(١) قنالش : بلدة تابعة لمقاطعة ألمرية ، على مقربة من بلفيق بلد المترجم له أبي البركات البلفيقي.
الإحاطة (ج ٢ ص ١٤٥) حاشية رقم ٢.
(٢) إستبونة أو أشتبونة : بالإسبانيةEstepona ، وهي بلدة تقع على البحر المتوسط شمال جبل طارق. الإحاطة (ج ٢ ص ٢٤) حاشية رقم ٣.
(٣) البينول : بالإسبانية : Albinol ، وهي بلدة تابعة لمقاطعة مالقة. الإحاطة (ج ٢ ص ١٤٥) حاشية رقم ٦.
(٤) فنيانةFinana : قرية بقرب وادي آش من الأندلس ، وقيل هي حصن. نزهة المشتاق (ص ٥٦٧) والروض المعطار (ص ٤٤١).
(٥) في الأصل : «سبع» وهو خطأ نحوي.