المشايخ عام ثمانية وثمانين وستمائة ، فوافى في طريقه الحاجّ المحدّث الرّاوية ، ذا الوزارتين بعد ، أبا عبد الله الحكيم ، وأخذ عن الجلّة الذين يشقّ إحصاؤهم ، فممّن لقي بإفريقية الرّاوية العدل أبا محمد عبد الله بن هارون ، يروي عن ابن بقيّ ، والأديب المتبحّر أبا الحسن حازم بن محمد القرطاجنّي. وروى بالمشرق عن العدد الكثير كالإمام جار الله أبي اليمن بن عساكر ، لقيه بباب الصّفا تجاه الكعبة المعظّمة ، وهو موضع جلوسه للسّماع ، غرّة شوال عام أربعة وثمانين وستمائة ، وعن غيره ، كأبي العزّ عبد الرحمن بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن منظور بن هبة الله ، وغيرهم ممن ثبت في اسم مرافقة في السّماع والرّحلة أبي عبد الله بن الحكيم ، رحمه الله ، فلينظر هنالك.
تواليفه : ألّف فوائد رحلته في كتاب سمّاه «ملء العيبة ، فيما جمع بطول الغيبة ، في الوجهتين (١) الكريمتين إلى مكّة وطيبة». قال شيخنا أبو بكر بن شبرين : وقفت على مسوّدته ، ورأيت فيه فنونا وضروبا من الفوائد العلمية والتاريخ ، وطرفا من الأخبار الحسان ، والمسندات العوالي والأناشيد. وهو ديوان كبير ، ولم يسبق إلى مثله. قلت : ورأيت شيئا من مختصره بسبتة.
دخوله غرناطة : ورد على الأندلس في عام اثنين وتسعين وستمائة ، فعقد مجالس للخاصّ والعام ، يقرئ بها فنونا من العلم. وتقدّم خطيبا وإماما بالمسجد الأعظم منها. حدّثني بعض شيوخنا ، قال : قعد يوما على المنبر ، وظنّ أن المؤذّن الثالث قد فرغ ، فقام يخطب والمؤذّن قد رفع صوته بآذانه ، فاستعظم ذلك بعض الحاضرين ، وهمّ آخر بإشعاره وتنبيهه ، وكلّمه آخر ، فلم يثنه ذلك عمّا شرع فيه ، وقال بديهة : أيها الناس ، رحمكم الله ، إنّ الواجب لا يبطله المندوب ، وأن الأذان الذي بعد الأوّل غير مشروع الوجوب ، فتأهّبوا لطلب العلم ، وانتبهوا ، وتذكّروا قوله ، عزّ وجلّ : وما أتاكم الرّسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقد روّينا عنه صلّى الله عليه وسلّم ، أنه قال : من قال لأخيه والإمام يخطب ، اصمت ، فقد لغا ، ومن لغا فلا جمعة له. جعلنا الله وإيّاكم ممّن علم فعمل ، وعمل فقبل ، وأخلص فتخلّص. وكان ذلك مما استدلّ به على قوّة جنانه ، وانقياد لسانه لبيانه.
شعره : وله شعر يتكلفه ، إذ كان لا يزن أعاريضه إلّا بميزان العروض ، فمن ذلك ما حدّث به ، قال : لما حللت بدمشق ، ودخلت دار الحديث الأشرفيّة ، برسم رؤية النّعل الكريمة ، نعل المصطفى ، صلوات الله عليه ، ولثمتها ، حضرتني هذه
__________________
(١) في نفح الطيب (ج ٥ ص ٧٠): «في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة».