واضطلع بشروط التّوبة ، فتحلّل من أهل بلده ، واستفاد واسترحم ، واستغفر ، ونفض يديه من الدّنيا ، والتزم عبادة كبيرة ، فأصبح يشار إليه في الزّهد والورع ، لا تراه إلّا متبسّما ، ملازما لذكر الله ، متواضعا لأصاغر عباده ، محبّا في الضّعفاء والمساكين ، جميل التّخلّق ، مغضيا عن الهنات ، صابرا على الإفادة. وجلس للجمهور بمجلس مالقة ، يتكلم في فنون من العلم ، يعظ الناس ، ويرشدهم ، ويزهّدهم ، ويحملهم على الإيثار ، في أسلوب من الاستنفار والاسترسال والدلالة والفصاحة والحفظ ، كثير التأثير في القلوب ، يخبر بإلهام وإعانة ، فمال الخلق إليه ، وتزاحموا على مجلسه ، وأعلنوا بالتّوبة ، وبادر مترفوهم إلى الإقلاع عن إجابة الشهوات ، والاستقالة من الزّلّات ، ودهم الوباء ، فبذلوا من الأموال في أبواب البرّ والصّدقة ، ما لا يأخذه الحصر ولا يدركه الإحصاء ، ولو لا أن الأجل طرقه ، لعظم صيته ، وانتشر نفعه.
وفاته : توفي شهيد الطّاعون عصر يوم الأربعاء الرابع لصفر من عام خمسين وسبعمائة ، ودفن بجبانة جبل فاره (١) ، ضحى يوم الخميس الثاني من يوم وفاته ، وصلّى عليه خارج باب قنتنالة ، وألحده في قبره الخطيب القاضي الصالح أبو عبد الله الطّنجالي ، رحم الله جميعهم.
وممّن رثاه الشيخ الأديب أبو الحسن الورّاد فقال : [الطويل]
أبعد وليّ الله دمعي يسجم |
|
وغمار قلبي من كلوم تترجم؟ |
فؤادي مكلوم بحزني لفقده |
|
لذاك جفوني دمعها كلّه دم |
وما ذا عسى يغني التفجّع والبكا |
|
وما ذا عسى يجدي الأسى والتّبرّم؟ |
سأصبر للبلوى وإن جلّ خطبها |
|
فصبر الفتى عند الشّدائد يعلم |
كذا العلم بالسيف الصّقيل لدى الوغى |
|
فويق الذي من حسنه لا يوسّم (٢) |
على قدر صبر المرء تصغر عنده |
|
خطوب من الدنيا على الناس تعظم |
ألا إنها الدّنيا تعلّة باطل |
|
ومحمض (٣) أحلام لمن بات يحلم |
تجنّبها أهل العقول فأقصروا |
|
وأغرق فيها الجاهلون وأشأموا (٤) |
__________________
(١) جبل فاره : بالإسبانيةgibralfaro ، يعلو مدينة مالقة. نزهة المشتاق (ص ٥٧٠).
(٢) كلمة «لا» ساقطة في الأصل.
(٣) في الأصل : «ومخمضة» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(٤) في الأصل : «وأشأم».