حاله : من خطّ ولده شيخنا على الاختصار ، قال يخاطبني في بعض ما كتب به إليّ : ذكر أبي ، وهو ممن طلبتم ذكره إلي في أخباره جزءا من نحو سبعين ورقة في المقسوم ، لخّصت لك من مبيّضته ما يذكر :
نشأ ، رحمه الله ، بسبتة على طهارة تامة ، وعفّة بالغة وصون ظاهر ، كان بذلك علما لشبّان مكتبه. قرأ القرآن بالقراءات السّبع ، وحفظ ما يذكر من المبادىء ، واتّسم بالطلب. ثم تاقت نفسه إلى الاعتلاق بالعروة الوثقى التي اعتلق بها سلفه ، فنبذ الدّنيا ، وأقبل على الآخرة ، وجرى على سنن المتّقين ، آخذا بالأشدّ من ذلك والأقوى ، طامحا بهمّته إلى أقصى ما يؤمّله السّالكون ، فرفض زي الطّلبة ، ولبس الخشنية ، وترك ملابسة الخلق بالجملة ، وبالغ في الانقباض عنهم ، وانقطع إلى الله برباطات سبتة وجبالها ، وخصوصا بمينائها ، وعكف على ذلك سنين ، ثم سافر إلى المغرب ، سائحا في الأرض ، على زي الفقهاء للقاء العبّاد وأهل العلم ، فأحرز من ذلك ما شاء. ثم أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس ، وورد ألمريّة ، مستقرّ سلفه ، وأخذ في إيثار بقايا أملاك بقيت لأسلافه بها ، على ما كان عليه من التّبتّل والإخبات. وكان على ما تلقينا من أصحابه وخدّانه ، صوّاما ، قوّاما ، خاشعا ، ذاكرا ، تاليا ، قوّالا للحق ، وإن كان مرّا كبيرا في إسقاط التّصنّع والمباهاة ، لا يضاهى في ذلك ، ولا يشقّ غباره. وقدم على غرناطة ، ودخل على أمير المسلمين ، وقال له الوزير : يقول لك السلطان ما حاجتك؟ فقال : بهذا الرسم رحلت ، ثم ظهر لي أن أنزل حاجتي بالله ، فعار على من انتسب إليه أن يقصد غيره. ثم أجاز البحر وقد اشتدّت أحوال أهل الأندلس بسبب عدوّهم ، وقدم على ملكه ، ووعظه موعظة أعنف عليه فيها ، فانفعل لموعظته ، وأجاز البحر بسببه إلى جزيرة الأندلس ، وغزا بها ، وأقام بها ما شاء الله ، وتأدب الروم لو تمّ المراد ، قال : وأخبره السلطان أبو يوسف ملك المغرب ، قال : كل رجل صالح دخل عليّ كانت يده ترعد في يدي ، إلّا هذا الرجل ، فإن يدي كانت ترعد في يده عند مصافحته.
كراماته : وجلب له كرامات عدّة ، فقال في بعضها : ومن ذلك ما حدّثني الشيخ المعلم الثّقة أبو محمد قاسم الحصّار ، وكان من الملازمين له ، المنقطعين إلى خدمته ، والسّفر معه إلى البادية ، فقال : إني لأحفظ لأبيك أشياء من الأحوال العظيمة ، منها ما أذكره ، ومنها ما لا أستطيع ذكره. ثم قال : حدّثني أهل وادي الزّرجون ، وهو حشّ (١) من أعمال سبتة ، قالوا : انصرف السيد أبو عبد الله من هنا ، هذا لفظه ، فلما استقرّ في
__________________
(١) الحش : البستان. محيط المحيط (حشش).